الخواطر الفنية في الإنشاد الديني

> شوقي عوض:

> جاءت هذه الخواطر الفنية والتأملية ـ على حد تعبير الكاتب والباحث صالح حنش ـ لتضفي على مسامعنا نوعاً من الرهبة الروحانية في التأمل بذلك الإنشاد الديني ـ على حد تعبيره أيضاً ـ كون الإنشاد الديني عامة هو جنس من أجناس الفن الغنائي الذي يؤدى بشكل جماعي من قبل المنشدين، حيث يشارك فيها المتلقون من جمهور المستمعين.
وهذا ما يلاحظ ـ كما يشير الباحث صالح حنش ـ عملياً وعلى صعيد الواقع وفي المناسبات الاحتفالية والمراسيم البروتوكولية الرسمية وعند أداء النشيد الوطني من قبل المنشدين، فالتلاميذ في المدارس ـ عادة ـ ما يبدؤون يومهم الدراسي بالنشيد الوطني، والذي يعد من أهم وأبرز مدلولاته لتجسيد وتعزيز الرابطة الوجدانية الجماعية بهذه الطريقة، وهذا الأسلوب بين المنشد وموضوع النشيد الذي يعد نقطة التقاء لكافة مؤديي النشيد الديني على اختلاف تنوع توجهاتهم وأفكارهم، حيث أصبح النشيد يمثل واحدا من أهم ملامح الهوية الشخصية للفرد والجماعة بحسب انتماءاتهم الوطنية والعرقية والقومية، وكذلك حسب معتقداتهم الفكرية والدينية.. لذا فإن لكل مجتمع من المجتمعات الإنسانية أناشيده الدينية ومعتقداته والتي تعود بجذورها إلى عصور ضاربة في أعماق التاريخ الإنساني كما تشير المصادر التاريخية، بالتزامن مع ظهور الأديان قديماً والدالة عليها آثار الحضارات الإنسانية القديمة كالحضارة اليونانية (الإغريقية القديمة) وحضارة فارس ومصر (الفرعونية) وحضارة الهند القديمة والصين، وحتى قبائل أفريقيا وقبائل الهنود الحمر.
حيث كان الإنشاد الديني جزءا من الطقوس الدينية للأمم الإنسانية القديمة في المعابد وأحد الواجبات التي يؤديها الكهنة والرهبان تجاه أتباعهم.
وعلى صعيد اليمن يذكر المستشرق الإنجليزي (فارس) قصة أشار إليها الباحث عبدالله الرديني في دراسة حول التطور التاريخي والاجتماعي للغناء في اليمن، مفادها “أن ملك مملكة عاد اليمنية أرسل قينتين (مغنيتين) من قوم عاد شهيرتين بـ(قعاد) و(عتاد) مع وفد لإقامة مراسيم الاستسقاء”، وذلك يدل دلالة واضحة على استخدام الغناء في الطقوس الدينية القديمة والإنشاد الديني.. كما دلت على ذلك آثار ممالك سبأ وحمير ومعين.. إلخ.
حيث ظل الإنشاد الديني أحد مكونات الطقوس الدينية التي تؤدى في المعابد والكنائس، كما هو الحال بالنسبة لمكة مهبط الوحي على النبي الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم، إلى أن جاء الإسلام وشكل منعطفاً تاريخياً هاماً في حياة الإنشاد الديني عند إجازته ولكن بمعزل عن النص القرآني المنزل من الله سبحانه وتعالى، وجعله في إطار النتاج الإبداعي الإنساني شأنه في ذلك شأن الشعر.
ولعل في ذلك مخالفة لما جرت عليه العادة عند متبعي الديانات الأخرى ومن بينهم اليهود والمسيحيون ـ حسب وجهة نظري الشخصية- وبالرجوع والتأمل في النص القرآني: “فإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا...”، وأحسب في هذا القول احتياطاً لئلا يتحول المقرئ لتلاوة القرآن إلى منشد يردد معه المستمع المتلقي ما يسمعه من هذه التلاوة، علماً أن تلاوة القرآن والتغني بقراءاته تقوم أساساً على المقامات الموسيقية المتعارف عليها، كما ويتفق الكثير من الباحثين والأكاديميين المتخصصين بالقرآن الكريم وعلومه وبالقراءات القرآنية أن مقام (الصبا) يعد من أكثر المقامات الموسيقية استخداماً في التلاوة القرآنية.
وفي هذا الصدد وبهذا النشيد المُشرف الذي استقبل به الأنصار النبي محمد صلى الله عليه وسلم ومن معه من المهاجرين على مشارف يثرب بالمدينة المنورة يكون التاريخ بولادة هذا الحدث من الاستقبال قد سجل لنا ميلاد أول نشيد ديني أو أشهر نشيد ديني في الإسلام، والذي سار على منواله التابعون من الشعراء والمنشدين حتى يومنا هذا.
وقد تنوعت وتعددت أغراضه وفنونه وأنشئت كذلك المؤسسات والهيئات والجمعيات المتخصصة بالإنشاد الديني كموروث لتطويره والاستفادة منه من قبل المنشدين الدينيين.
وهاكم نموذج لهذا الإنشاد الديني عند استقبال رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم والقائل:
(طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع
جئت شرفت المدينة مرحبا يا خير داع).
لذلك يعتبر الإنشاد الديني هو الأبرز في المظاهر الاحتفالية المقامة احتفاءً وإحياءً للمناسبات الدينية والاجتماعية الخاصة والعامة كالمولد النبوي الشريف (12 ربيع الأول) والهجرة النبوية (أول محرم) والإسراء والمعراج (27 رجب) وليلة النصف من شعبان ويوم (عاشوراء)... إلخ.
بل إن الإنشاد الديني يدخل ضمن طقوس ومراسيم الاستعدادات والتحضيرات لاستقبال شهر الصوم شهر رمضان الكريم ومع حلول شهر شعبان، كما تسجل في ذلك الذاكرة الإنسانية لموروث التراث الشعبي.
إذ يلاحظ، ما أن يبدأ العد التنازلي للعشرة الأيام الأخيرة من شهر شعبان من كل عام حتى يبدأ تدشين ما يمكن أن يطلق عليه مهرجان الإنشاد الرمضاني، سواء أكان ذلك بشكله العفوي الذي يؤدى في أبسط وأسطع صوره وتجلياته، أو في أهازيج الأطفال وأناشيدهم وما تلقوه بالسماع أو ما تعلموه في الكتاتيب (المعلامة) أو المدرسة، وهي عبارة عن أناشيد رمضانية فرائحية، ابتهاجية ترحيبية بقدوم شهر الصوم، وكذلك الأمر عند توديع شهر رمضان، وهو ما يسمع كذلك من المساجد والتجمعات السكنية الأخرى وعبر وسائل الإعلام الجماهيرية المرئية والمسموعة (إذاعة وتلفاز).. إذ إنها تتوسع في مضامين نطاق الترحيب بالشهر الكريم وإظهار الفرحة والسرور به بالدعاء والابتهال إلى الله تعالى والاستغفار والدعوة إلى الاستفادة من المغانم والفوائد التي تتوفر في هذا الشهر الفضيل دون غيره من الأشهر، والمتمثلة في الحكمة من فريضة الصيام وفي السلوك العام والعلاقات الاجتماعية العامة.
وخلاصة القول.. إن عبادة الصوم ورمضان قد ارتبطت بالإنشاد كغيرها من الكثير من العبادات والمناسبات الدينية في الإسلام وفي كل الديانات السماوية.
ومع كل هذا الألق والضياء المنبعث من الإنشاد الديني في الجانب الروحاني من حياتنا إلا أنه يتبادر إلى الأذهان سؤال جوهري ومحوري وهام عن أسباب التراجع لهذا اللون الغنائي عموماً مع انتشار الفرق الإنشادية واتحاد جمعيات المنشدين اليمنيين، في ظل غياب اتحاد للفنانين أو نقابة لهم.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى