مـقـدمــة مـؤجــزة فـي الأدب الـسـاخــر

> محمد حسين

> تقف السخرية على رأس الأساليب الفنية الصعبة؛ إذ إنها تتطلب التلاعب بمقاييس الأشياء تضخيمًا أو تصغيرًا أو تطويلاً أو تقزيمًا، وهذا التلاعب يتم ضمن معيارية فنية هي تقديم النقد اللاذع في جو من الفكاهة والإمتاع؛ غير أنّ أسلوب السخرية يختلف من عصر إلى عصر، ويتفاوت من كاتب إلى آخر.
إن الأدب الساخر لا يعنى الضحك من أجل الضحك، فهذا يسمى (تهريجًا)، بينما الأدب الساخر هو (كوميديا) سوداء تعكس أوجاع المواطن السياسية أو الاجتماعية، ويقدمها بقالب ساخر يرسم البسمة على الوجه، ويضع خنجرًا في القلب، ويشتمل هذا الأدب على كافة أنواع الإبداع الأدبي الذي يطرح موضوعاته بسخرية، والكاتب الساخر هو من يحول الألم إلى بسمة والحزن إلى إبداع؛ فإن لم يكن للكاتب الساخر قضية مهموم بها ورسالة يريد لها أن تصل، فإنه يصبح مهرجًا، الكاتب الساخر يجعل القارئ يبكي من فرط الضحك، وفي الوقت نفسه يضحك من فرط الألم.
هناك الكثير من الأدباء من كتب في هذا النوع من الأدب، وهناك من تخصص بكتابة الروايات والمسرحيات الساخرة، ولقد عرف السلف من كتابنا أشكالاً عديدة للكتابة الساخرة في مورثنا الأدبي، على نحو ما نجده في (كليلة ودمنة)، و(البخلاء)، و(المقامات)، و(النوادر)، و(أخبار الحمقى والمغفلين)، و(أخبار الظرفاء)، وغيرها من الأشكال النثرية، كما ظهرت السخرية في الشعر العربي عبر عصوره، وإنّ في السخرية قديمها وحديثها قدرًا كبيرًا من الغمز، واللمز، والهمز، من هنا كانت الفكاهة في السخرية وسيلة لا غاية في ذاتها.
السخرية في الأدب فنّ ينم على ألم دفين، ويشف عن كرب خفي يريد اللجوء إليه ليداوي ألمه بالضد، ويشفي كربة بالنقيض، ومن هنا كان الألم الذي يشعر به الأديب أو الشاعر، وعدم قدرته على إلغاء أسباب هذا الألم، هو الدافع وراء هذه السّخرية التي يصطنعها.
غير أنّ البواعث للجوء إلى هذا الأسلوب يختلف من عصر إلى عصر، حيث كانت غاية السخرية في عصر فردية وفي عصر آخر جماعية، وهدف كاتب من كتابة هذا النصوص سياسية وآخر اجتماعية، أو له أسباب أخرى؛ ولهذا نقول: “إن السخرية لونٌ من الهجاء، أو المجون، أو التهكم، أو الفكاهة، أو النكتة، أو الظرف، أو الهزل، أو.. ولكن بفارق” (1).
**نشأة السخرية**
يصعب علينا أن نحدّد تاريخًا دقيقًا لظهور مصطلح السّخرية في المجتمع الإنساني، ومع ذلك يمكننا القول: “إنها موجودة منذ الأزل، مذ إدراك الإنسان ذاتيته وتميزه عن الآخر”، فظهر مصطلح السّخرية مع تشكل الجماعات البشرية، وظهور مصطلحات القهر السياسي والتّسلّط (2).
فقد كشفت الدّراسات والأبحاث الأثرية عن وجود (رسومات كاريكاتورية) خلّفها الإنسان القديم على جدران الأهرامات المصريّة، وكذا في أرجاء المعابد القديمة، نذكر من ذلك (بردية) مصريّة قديمة بيد رسام ساخر مجهول عن طائر يصعد إلى شجرة، ليس بواسطة جناحيه، وإنما بواسطة سلّم خشبي، فاستعمال الطائر للسلم الخشبي بدلاً من جناحيه في هذه الصورة مخالف لما هو متعارف عليه في الواقع، ما جعله موضعًا للسخرية. (3)
**الهدف من السخرية**
مثلما تتسع السخرية لاستيعاب الأخطاء التي تتعثر بها في طريقها، قد ترتفع سدًا بوجه اليأس الذي تصفعنا به المفارقات اللا معقولة في الحياة، فتمنحنا الشجاعة لمواجهة مصيرنا بأسلوب تهكمي، فكه، ويكون صادقًا من الأعماق، ومن هذا تتزاوج السخرية في وجهها الهازل مع الألم، فيأتي لوقعها صدى غريب، يمتزج فيه اليأس والرجاء، الدمعة بالضحكة، المأساة بالملهاة، في خلط مذهل، فالسّخرية رغم شكلها الهازل، ذات وجه مأساوي ينطوي على فجيعة مدهشة إزاء لا معقوليات الشر والخديعة في هذا العالم، فتنطلق السخرية حينئذ تعويضًا يعيد للمثل توازنها، وذلك عبر قهقهة عابثة، ينطلق دويها في ذورة الكشف العاري للحقائق، حيث يختلط الإحساس المفجع باللاهي، وفق وتيرة ضحك مأساوي يختلف عن رنين الفرح.
**اتجاهات السخرية**
*تسير السخرية في اتجاهين: (اتجاه إيجابي بناء، واتجاه سلبي هدّام)، والهدم مرحلة حتمية في إعادة البناء، وأيًّا كان اتجاهها وشكلها فإنّ طعم القسوة هو نكهتها الخاصة، لكن هذه القسوة ليست هي نفسها في كل مجالات السخرية؛ إذ تتفاوت درجة حدّتها وقسوتها بحسب ما تقتضيه الظروف، فهي تبدأ بما يعرف بالغمز واللمز اللذين غالبًا ما يردان في إطار من اللهو والظرف والضحك يبعدهما عن الإصابة المباشرة الجارحة، ويلطف وقعهما في النفس، هذا الوقع الذي يستشف استشفافًا، ويتفاوت بين شخص وآخر بحسب ذكائه وإرهاف حسه.
ثم تقوى السخرية شيئًا فشيئا حتى تصبح هوجاء، مهشمة، تنال من هدفها دون مواربة؛ إذ لا تغفلها أجواء المرح، وعندها تسمى تهكمًا.
إذن فالسخرية نقد أو طعن مصوغ في ثوب فكه، إنها بديل مقبول للعقاب وهجوم متعمد على شخص بهدف سلبه كل أسلحته وتعريته من كل ما يتخفى فيه ويتحصن وراءه.
وعطفًا على ما سبق فسلالة الأدب الساخر سلالة قديمة في التراث الأدبي العربي، بل والأدب العالمي أيضًا، وفي كل عصر من العصور، يبرز شعراء تطغى على قصائدهم بصمة السخرية والتندر وكذا نثار، وإن هذه النزعة التهكمية عند معظم هؤلاء الشعراء ليست رغبة في الضحك، ولكنها كما قال المتنبي: “ولكنه ضحك كالبكاء”.
1 - د. شمسي واقف (الأدب السّاخر، أنواعه وتطوره).
2 - غسان آغا، مجلة الفكر، 11 يونيو، 2007م.
3 - الغرباوي، منتديات ميدوزا، 2005م.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى