الفنان محمد صالح حمدون .. الصوت الذي لا يغيب!

> د. هشام محسن السقاف

> بإحدى أغاني فريد الأطرش كان عبدالله هادي سبيت ـ وقد ملئ صيته الفني والنضالي الأرجاء اللحجية والبندر عدن عام 1957م ـ يسبر غور الصوت الرخيم للصبي الكشاف ابن الوهط محمد صالح حمدون، وقد كان ضمن رعيله في رحلة للترفه في بساتين (الحسيني) وما حولها يقودها المربي الكبير ابن مصر الأستاذ عزت مصطفى منصور كدأبه الخارق للعادة في تلك الفترة، ليظفر سبيت بحدس الفنان الحاذق بصوتٍ استثناء، حلق معه لحيظات بعد أن أخرج من جيبه قصاصة كتب فيها (سألت العين) غنى الحمدون مطلعها بعد تلقين سريع، وأيقن الرجل الكبير بمزايا الفتى الصغير الصوتية، ليبدأ من هناك مشوار الاثنين على مدى الأعوام الثلاثة القادمة، ولتمتلئ سماوات الغناء في لحج وعدن بتراجيع الصوت الكرواني لحمدون متزامناً أفق الغناء والطرب في مسارح الحوطة ودار سعد والبادري بشاكلته العاطفية، بهدير الإيقاظ الثوري كما يترجمه سبيت وسواه من الشعراء مغلس ونصيب وأمان والجرادة وسواهم من لحج وعدن على السواء، بعبقرية الألحان والأداء لفنانين أمثال محمد مرشد ناجي وفضل محمد ويكون للحمدون وأترابه من الجيل المكتشف نصيب من التشكل الفني بين هؤلاء الكبار بمذاقات العاطفة والنضال معاً.
ويكفي أن يتذكر ابن حمدون بعد سنوات وسنوات من تلك الأحداث أن الجمهور قد ألح في مسرح (دار سعد) أن يتذوق مراراً مقاطع أنشودة (ياشاكي السلاح) فيرضخ الفنان ويعيد ثم يعيد متجاوزاً وقت إسدال الستارة، فتنفجر قنبلة موقوتة في السيارة (Japan) كانت تقل الأستاذ سبيت والحمدون والفرقة الموسيقية، ويستشهد في الحادث مساعد السائق من أبناء تعز وتتضرر سيارة السيد (علي الصعو) من أبناء الوهط.
وعندما كان الشعراء والفنانون أمثال سبيت ونصيب ومغلس يشعلون الدنيا غناء وأناشيد عن ثورة الجزائر ومعركة بورسعيد وفلسطين في السنوات الأخيرة من العقد الخمسيني من القرن الماضي بتماليح منقحة من الأصوات المسكرة للحمدون وعبدالكريم توفيق وتكرير وحسن عطا.. إلخ فإنها كانت بروفات مبكرة لثورة قادمة لم يلتفت إليها الثوريون الحكام بعد ذلك.
ولعل ارتباط حمدون بسبيت في ثنائية الصعود إلى مراتب الفن الراقي بمبتدأ محير من الغناء مثلته (سألت العين) التي لا تصنف - رغم لحوجيتها - إلا بأنها (أغنية) عربية تتلقفها الأجواء الحلبية وتعزفها الأوكسترا الملكية المغربية والسلطانية العمانية بعد أن كانت قد غنتها الفنانة البحرينية موزة، فإن سبيت وكمن أراد أن يتفوق على نفسه بعد أن طبقت (سألت العين) الآفاق، بوضعه لحناً لكلمات نظم مطلعها ولحنه في عدن قبل أن يتكامل البناء (الملحمي) لأغنية (ياباهي الجبين) التي حفظتها إذاعة عدن بصوت الفنان محمد صالح حمدون الآخاذ.. ومن أبيات هذه
مشهد من الفنان الراحل حمدون في حفل مخدرة
مشهد من الفنان الراحل حمدون في حفل مخدرة
الأغنية الرائعة:
يا باهي الجبين كم مرت سنين
ونا في أنين ليلي من بحين
قالوا مستحيل تحظى بالقليل
خذ غيره بديل قلت لهم منين
***
من غيرك مُنى قلبي يطفي لوعتي
من ذا يشبهك
يا ذي انته باشجاني تسيل دمعتي
هب روحي معك
وعندما تشتد المكائد وتربصات السلطات يغادر سبيت الى مصر العربية ويتماهى الحمدون في مقامات اللحن كما يطوعها العبقري فضل محمد اللحجي، في ثنائية رائعة لا يلتفت إليها كثيرا بعد أن غطت ثنائية سبيت - حمدون أفقا ممتدا أو مكثفا بالأصح في السنوات الثلاث المتبقية من عقد الخمسين الماضية.
ومن ثنائية فضل محمد ـ الحمدون وضع اللحجي لحنه الرائع لقصيدة الشاعر صالح نصيب (أخاف) الذائعة الشهرة، ولكن محاولات فضل تسجيلها للإذاعة بصوت الحمدون باءت بالفشل، فسمعناها بعد ذلك بأصوات العديد من فناني لحج، ومن أبياتها:
أخاف والخوف منك
أخاف منك عليك
أخاف يغريك حسنك
وتحسب إنك مليك
على ذوات السحن ربات الخصال
أو أنت معبود عشاق الجمال
وتحسب أن الكل لاشيء لديك
وفي مطلع الستينات يغادر الحمدون إلى الكويت طالبًا في مدرسة الشويخ الثانوية قبل أن يعود في العام 1962م ليلتحق بالعمل في ورشة الحاج محمد عبد العزيز الأغبري حتى عام 1967م ثم معلمًا في سلك التدريس مع فترات متقطعة من العمل في تلفزيون عدن ووزارة الثقافة ثم العودة للتدريس، وهي الفترة التي لمع فيها في الأفراح والمخادر بعد أن طاله بعض من التهميش والتضييق، وارتبط فنيًا مع الشاعر عبداللطيف أحمد صالح وأحمد سعيد دبا ومع الفنان وعازف العود الكبير الشيخ يحيى محمد فضل العقربي والفنان زين راجل وحسين عبد الهادي، ثم تبتدئ مرحلة رائعة من مراحله الفنية في منتدى الوهط الثقافي من العام 1997م حتى اليوم الذي وافاه الأجل المحتوم في 13 أكتوبر 2003م.. رحم الله الفنان الكبير محمد صالح حمدون، وأسكنه فسيح جناته.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى