اغتيال مشروع القومية العربية.. 44 عاماً على وفاة الزعيم جمال عبدالناصر

> د. سعيد جيرع

> لا أدري لماذا قفزت صورة جمال عبدالناصر إلى ذهني من خلال مشاهدتي لفيلم ناصر 56 والذي قام بدور البطولة فيه الفنان الراحل والمبدع أحمد زكي، ولماذا راح صوته الهادر ينثال في سمعي وهو يهتف: لن نستسلم.. سنقاتل.. وكان ذلك في بدايات معركة 1956، العدوان الثلاثي على مصر من قبل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل.. وقد جلست أمام شاشة التلفاز لتزداد نفسي حماساً.. وتتعالى عزتي فخراً.. ولم لا، والتاريخ علمنا بأن عبدالناصر وفي بوعده ولم يستسلم واختار درب القتال الصعب.. عرفت أنا وأبناء جيلي إلى أي حد تكون كرامة المرء في كفة.. وحياته في الكفة الأخرى.. وقد علمنا التاريخ أن عبدالناصر كان رجلاً لا يتخاذل.. بل يحارب أعداءه بقوة.. ويتصدى لهم بعنف.. وقد ازداد قدر عبدالناصر في ضميري وفعل كل ذلك في معاركه الكبيرة.. ورأيت أن هذا هو سر هؤلاء العظماء الذين يأتي بهم القدر لتغيير وجه الحياة.. ولو لم يكونوا على قدر هذه المهمة ما كانوا قد جاءوا.. ولا كان قد أتى بهم قدرهم وقدرنا!.
ومن حبي الشديد لشخصية وعظمة جمال عبدالناصر استجبت لرغبتي في قراءة كل ما يمكنني قراءته حول جمال عبدالناصر بأقلام محبيه وأقلام كارهيه.. فللتاريخ وللحقيقة الغائبة من بعض الحاقدين.. رأيت أن هناك مايشبه الإجماع في الإشادة بمزاياه الإنسانية.. وخصالة الآدمية الحميدة.. ورقته.. رغم جبروته، ولينه.. رغم عنفه.. وسهولة سقوط دموعه رغم فروسيته.. أعرف أنني لم أضف أي جديد.. ولكن إذا كان ما كتبته وما سأكتبه هو من ذاكرتي ومن بعض الكتب والمجلات التي في متناول يدي جاء بشكل باقة زهور لا فضل لي فيها أكثر من فضل المرء على جمع هذه الزهور وتنسيقها وليس البدء بزراعتها.. فهذا هو الشيء البسيط الذي فعلته دون أن أدعي التواضع.. والآن يدعي أعداء عبدالناصر ولا زالوا يحاولون أن يجعلوا كل ما حدث أكذوبة.. أو وهماً.. وأن ما عشناه من حب واقتناع ورضا وأمل لم يكن سوى ثمرة (عبيطة) نلناها من سياسة توزيع الفقر، وأنه كان من الممكن أن تكون أعلى شأناً من ذلك وأكثر تقدماً.
لو أن عبدالناصر ركب رأسه وحاول الانفراد بسياسة بعيدة عن إرادة أمريكا وتوجهاتها وتوجيهاتها.. فتلك هي الخطيئة التي وقع فيها عبدالناصر.. وأوقع فيها المجتمع.. كما يدعي أعداؤه الحاقدون.
لكن عبدالناصر لم يسلم إرادته وحريته وكلمته لأمريكا تفعل بها وبنا ما تشاء.. هؤلاء المتخاذلون نسوا تلك الإرادة التي تخلى عنها شاه إيران منذ وعى الدنيا واعتلى سرير الحكم وسلم لهم أمره فجعلوه جلاداً لشعبه.. وعندما ثار عليه شعبه تخلت عنه أمريكا وتركته يذبل ثم يموت.. دون أن تقف بجانبه.. هل كان من الممكن لعبد الناصر أن يقوم بثورته ضد مظاهر الظلم والاستبداد والرجعية والاحتكار والرأسمالية.. تم يلتف على شعبه ويعود إلى نفس ما عانى منه.. وثار عليه؟.

هل كان مطلوباً منه أن يستبدل الإنجليز بالأمريكان..؟! لقد قامت ثورة 23 يوليو 1952 في الوقت الذي كانت أمريكا تهيئ نفسها لتنفيذ سياستها الجديدة لملء الفراغ الذي تركته كل من إنجلترا وفرنسا.. وكانت خطة الأمريكان هو أن يكون سلاحهم الاحتلال بالدور وتكوين الأحلاف.. وأن “تكونوا معنا قلباً وقالباً.. ومن ليس معنا فهو ضدنا”.. وعندما أعلن عبدالناصر أن سياسته هي عدم الانحياز منذ مؤتمر باندونج، عامداً إلى تدعيم الحركة بدول كبرى كالهند ويوغسلافيا.. ومن هنا تميزوا منه غيظاً وقرروا ذبحه في مسلسل طويل من التآمر طال مسيرته السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. ووجدوه متحيزاً للتغيير في الداخل بمنظومة عمل لا تهمد ولا تتوقف.. منها على سبيل المثال:
- إطلاق مجانية التعليم وتسهيل دخول الجامعات لكل أبناء الشعب.. وفي عصره أصبحت الشهادات الجامعية في متناول الجميع.. وحينها قال عبدالناصر.. ما العيب في ذلك.. لو صرنا شعباً بهذه الكيفية فقد نجحنا.. ولن نستطيع أن نتقدم ونواجه العالم المتحضر والدخول فيه إلا بالعلم.
- قام عبدالناصر بنشر التصنيع.. وناشد أمريكا والغرب الخبرة والمال.. فكان شرطهم أن يكون ذلك تحت رقابتهم.. خوفاً من لجوئه إلى تصنيع السلاح مما يمثل خطراً على إسرائيل.. مسمارهم المدقوق في ظهورنا.
- فاجأ عبدالناصر أعداءه بفتح ملف جديد اسمه السد العالي.. وناشدهم مساعدته بالخبرة والمال.. فما كان منهم إلا أن يضعوا أمامه الشروط التعجيزية بل حاولوا التقليل من شأن ذلك المشروع الذي يستهلك ميزانيات عديدة دون طائل كما أدعوا.. وعندما وجدوا منه إصراراً راحوا يحاربونه في صمت حتى فاجأهم بتدبير الخبرة من السوفييت والمال من الداخل.. في تأميم قناة السويس عام 56.. في لحظة درامية أذهلت العالم.. وما أشبه الليلة بالبارحة، فقد تعلم الدرس منه الرئيس المشير عبدالفتاح السيسي.. وعندما أعلن السيسي مشروع حفر قناة السويس الثانية عام 2014.. لم يتوجه السيسي بتمويله من الدول الكبرى (أعداء الأمس واليوم) بل توجه إلى شعب مصر.. ولأن الشعب المصري من الشعوب الحية المحبة لمصر وله تاريخ وحضارة لأكثر من 7500 عام فقد لبى طلب رئيسه، وخلال ثمانية أيام جمع 64 مليارا علماً بأن المشروع بحاجة لـ61 مليار جنيه مصري فقط.
- ومن ضمن القرارات التي استعدى الغرب عبدالناصر بسببها قرار الإصلاح الزراعي والذي أصدره بعد 61 يوما من قيام ثورة يوليو 52.. وقام عبدالناصر بتوزيع الأراضي على الفلاحين.. وفي فترة قصيرة استطاع الشعب المصري أن يكتفي محلياً من إنتاج المحاصيل الزراعية الرئيسية مثل القمح والأرز والفواكه والخضار.. بل تم تصدير بعضها إلى الخارج.
- ومن أهم القرارات التي أصدرها عبدالناصر والتي أزعجت الغرب وقصمت ظهر البعير هو التوجه إلى المعسكر الشرقي (الاتحاد السوفيتي).. ورغم هذا فقد أعلن وهو يطأ أرض الاتحاد السوفييتي “لن أكون شيوعياً.. وسارفض أن أكون كذلك”، وقد استغل بعض المغرضين الحاقدين توجهه للمعسكر الشرقي وقالوا إنه أدار ظهره لأمريكا، وكان الرجل قد جاء باحثاً عن البطولة وليس الإصلاح.. وهذا التجني يدخل في مسلسل التشويه الذي أراده أعداؤه ضده بعد موته.. غافلين أن التاريخ حتماً سيقول كلمته.. والتاريخ يقول إن عبدالناصر لم يدر ظهره لأمريكا بل حاول خطب ودها منذ الشهور الأولى لثورة يوليو وبالتحديد منذ نوفمبر 52.. أي بعد انطلاقها بأربعة أشهر فقط. والدليل هو ما جرى مع بعثة مصر للأسلحة إلى أمريكا برئاسة علي صبري لتوقيع الاتفاق التفصيلي الذي تم المصادقة عليه في مصر.. وبدلاً من الموافقة واعتماد إرسال السلاح.. راح الجانب الأمريكي بالطرق الملتوية يملي شروطه للوفد المصري بالتالي:
1 - لن نعطيكم السلاح إلا إذا دخلتم في تسوية فورية مع إسرائيل.
2 - حلف بغداد (مثلث أنقرة - بغداد - إسلام آباد، أي (حلف تركيا - العراق - باكستان) لمواجهة السوفييت.
3 - لن نعطيكم السلاح إلا إذا تركتم مشروع القومية العربية وعملتم من دون العرب.. وحينها علق عبدالناصر بقوله: “إن الشحنة الأولى التي ستصلنا هي علي صبري نفسه وبدون سلاح”.
ومن هنا نعلم أن أمريكا نفسها كانت قد تخلت عن مصر عبدالناصر، وليس كما يروج أعداؤه من أنه هو من تخلى عنها.. حتى أن (تشرشل) رئيس الحكومة البريطانية في ذلك الوقت قد علم بهذه الصفقة.. فاتصل بصديقه الشخصي دوايت أيزنهاور رئيس أمريكا الجديد في وقتها معاتباً: “يا صديقي أيزنهاور.. سمعت أنكم ستعطون المصريين السلاح يقتلون به أبناءنا في قاعدة السويس” (قبل التأميم).
وطمأنه أيزنهاور فوراً: “سيدي ثق أن هذا.. لن يحدث”.
والتاريخ يشهد أنه لم يحدث أن أمريكا أو حتى أي رئيس أمريكي تعامل مع مصر بأي قدر من الحيادية أو النزاهة.. باستثناء جون كنيدي الذي كانت علاقته من نوع خاص بين عملاقين في زمن الحرب الباردة.. وكان لموت أحدهما مبكراً أثره الخطير بأن تجري الأحداث اللاحقة والمتلاحقة لصالح إسرائيل بدءاً من توجيهات خليفته (جونسون) حتى أن المرء لا يمكن أن يطرد من رأسه الظن بمن هم قتلة كنيدي الحقيقيين.
وبعد أن انفلت من قبضتهم شاب ثائر اسمه عبدالناصر استطاع بسحره الخاص.. وثورته العذراء أن يجمع حوله الشعوب العربية والأفريقية والإسلامية في زحم ثوري كان يتصاعد بشكل غير مسبوق.. ولم ولن يسنى أعداؤه أنه عندما جمع من حوله العرب.. فقد هز من حوله العروش والجيوش.. ولم ولن ينسى الغرب وأمريكا أن السادات في واقعة غير مسبوقة جعلهم يذوقون قسوة البرد في شتاء 73.. بعد حرب أكتوبر 73 وأوقفوا ضخ النفط إلى أمريكا وأوروبا.. بعد أن رضخوا لحظيا أو مرحليا.. ثم أداروا طواحينهم المفتتة للعظام بعد ذلك.. وانتهى بهم الأمر إلى السيادة الكاملة على منابع النفط.. وشيوخه.. وأمرائه.. وملوكه.. وللأمانة: الملك الوحيد الذي واجههم بقوة وبكلمة الحق.. اغتيل في حادث درامي مايزال غامضاً.. بخنجر الغدر والخيانة.. إنه الملك فيصل آل سعود - رحمه الله -.. الذي كان قد سجل اسمه بحروف من ذهب، بأنه اختار الشعب العربي فوق مصلحة أعدائه.
إن ما يتمتع به الأغلبية من ساستنا العرب من غياء سياسي يظهر في أنهم لم يتأملوا مدى نجاح المحاولة الوحيدة التي تحققت عملياً، ونجم عنها ارتعاش أبدان الغرب وأمريكا عندما وافق العرب ولأول مرة على قطع النفط.. وعرف العرب أنهم خسروا كثيراً عندما استهانوا وأداروا ظهورهم لمشروع عبدالناصر (مشروع القومية والوحدة العربية) خوفاً على عروشهم.. ليتهم استهانوا فقط وأحجموا فقط ولكنهم حاولوا اغتياله.. (وانظروا كيف دارت الأيام على واحد من هؤلاء، أجبر على التنازل عن عرشه، وكان يبحث لنفسه عن منفى اختياري.. فلم يجد سوى مصر وعبدالناصر يستقبله ويكرمه).
ولغبائهم وخوفهم على عروشهم ازداد غلهم تجاه عبدالناصر وراحوا يكيدون له في الخفاء ويحيكون المؤامرات المتنوعة ضد هذا البطل الذي جاء واعداً.. أما الآن وبعد رحيله واختلاط الحابل بالنابل فقد وهن الصوت العربي في المحافل الدولية وعلى كافة المستويات، ونشاهد أمام أعيننا المؤامرات المتواصلة ومحاولة تفتيت وتقسيم المقسم للدولة العربية وتدمير الاقتصاد العربي والإسلامي، ونرى ما وصلت إليه القضية الكبرى للعرب (فلسطين) ومخطط الشرق الأوسط الكبير والفوضى الخلاقة لكونداليزا.. وما هو تحت الطاولة من الثورات العربية الجديدة المسماة (بالربيع العربي)!.
إن هذه الرؤوس الخاضعة لم تعد تكفي.. بل إن سكب الدموع لم يعد يكفي عندما أكد التاريخ والوثائق أن التآمر ضد عبدالناصر ومشروعة القومي لم يصل إلى حد التآمر لقتله فقط.. بل عمدوا إلى قتل العروبة وليس اغتيال شخصية وشخص عبدالناصر فقط.. والمفاجأة الكبرى التي أخرجها الصحفي الكبير هيكل حول عملية التجسس على قاعة المؤتمرات العربية بميكروفونات تنصتية كانت تنقل كل ما يدور من همس في المؤتمرات مباشرة إلى آذان رجال الموساد في إسرائيل.
لقد كانت هذه الخيانة سبباً من أسباب القصور العربي في مواجهة التألق الإسرائيلي.. ومن الذي دفع الثمن؟!.
بالطبع عبدالناصر أحد الذين دفعوا الثمن باهظاً.. وهو يقف على رأس طابور طويل يمتد بطول الأمة العربية.
مات البطل وانتقل إلى بارئه، ولكنه ظل باقياً في قلوب الملايين من العرب. ولا بد للتاريخ أن ينصف البطل، وخير دليل خروج الملايين من المحيط إلى الخليج في ما يسمى بثورات الربيع العربي حاملين صور جمال عبدالناصر.
ونتذكر يوم محاولة اغتياله في المنشية صرخ عبدالناصر وقال قولته الشهيرة “إذا مات جمال عبدالناصر.. فسوف يخرج ألف جمال من قلب الأمة”.. وقد تحقق حلم عبدالناصر وعادت لنا مصر بإذن الله قوية أبية بين شعوب العالم.
تحيا الأمة العربية لأبد الآبدين والخزي والعار للمتآمرين والحاقدين!.
أخيراً إلى “والدنا جمال عبدالناصر”:
“الحزن مرسوم على الغيوم والأشجار والستائر
وأنت.. سافرت ولم تسافر
فأنت في رائحة الأرض، وفي تفتح الأزاهر
في صوت كل موجة، وصوت كل طائر
في كتب الأطفال، في الحروف والدفاتر
في خضرة العيون.. وارتعاشة الأساور
في صدر كل مؤمن وسيف لكل ثائر
عندي خطاب عاجل إليك..
لكنني..
لكنني يا سيدي..
تسحقني مشاعري
...
يا أيها المعلم الكبير
كم حزننا كبير..
كم جرحنا كبير..
...
وعندما يسألنا أولادنا
من أنتم؟
في أي عصر عشتم؟
في عصر أي ملهم؟
في عصر أي ساحر؟
نجيبهم: في عصر عبدالناصر..
الله .. ما أروعها شهادة
أن يوجد الإنسان في عصر عبدالناصر!”.
(نزار قباني) **د. سعيد جيرع**

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى