السبت, 07 يونيو 2025
196
عدن، المدينة التي كانت يومًا رمزًا للتنظيم الحضري والخدمات المستقرة، تختنق اليوم تحت وطأة أزمة كهرباء تتفاقم حدّتها مع كل صيف قائظ. هذه الأزمة ليست وليدة اللحظة، بل امتدادٌ لتراكمات عمرها أكثر من ثلاثة عقود، بدأت عقب حرب صيف 1994، التي مثّلت لحظة انهيار للبنية التحتية في الجنوب، وبداية لنهج تهميش ممنهج استهدف مؤسساته الحيوية.
ورغم أن الكهرباء في عدن لم تكن مستقرة منذ ما بعد 1994 وحتى عام 2015، إلا أن الأوضاع شهدت بعد ذلك تدهورًا غير مسبوق، نتيجة الحرب الأخيرة وتبعاتها الكارثية، وغياب المعالجات الجادة، وانعدام رؤية استراتيجية لتلبية الطلب المتزايد، الذي يُقدَّر اليوم بحوالي 600 ميجاوات، بينما لا يغطي الإنتاج الفعلي سوى جزء محدود من هذا الاحتياج.
صحيح أن السنوات الخمس الأخيرة شهدت إنشاء محطة بترو مسيلة (العاملة بالنفط الخام)، ومحطة بئر أحمد (محطة طاقة شمسية بقدرة 120 ميجاوات بتمويل إماراتي تهدف إلى ترشيد نفقات التوليد)، وقد أسهمتا جزئيًا في تحسين الخدمة، إلا أن غياب الاستدامة في تموين الوقود، وتجاهل أعمال الصيانة الدورية لبقية المحطات، أفرغ هذه المشاريع من مضمونها. في المقابل، لا تزال محطات التوليد القديمة تعمل بأقل من نصف طاقتها التصميمية، دون أي خطط فعلية للإحلال أو التطوير. كما أن محطات التحويل لم تشهد أي تحديث يواكب التوسع العمراني والنمو السكاني، ما أبقى الشبكة في حالة ضعف مزمن.
ويُفاقم الأزمة استمرار الفوضى في إدارة ملف الوقود، وغياب الشفافية والرقابة عليه، إضافة إلى التوسع العمراني العشوائي، ومنح التراخيص دون دراسات فنية تأخذ في الاعتبار قدرة الشبكة على التحمل، ما فاقم الضغط على منظومة متهالكة بطبيعتها.
هذه المعطيات لا يمكن فصلها عن نهج سياسي استخدم "الخدمات العامة" كسلاح لإخضاع الجنوب وإبقائه في دائرة من الإرباك والعجز المتكرر. فالقوى التي فرضت واقع ما بعد 7-7 لم تكتفِ بإضعاف مؤسسات الدولة، بل عملت على تفريغها من كفاءاتها، وتعطيل أدوارها، وتجفيف مواردها، وحرمانها من أبسط مقومات التطوير والاستقرار.
إن أزمة الكهرباء، رغم طابعها الفني، تُجسد في جوهرها انعكاسًا لأزمة أعمق تتعلق بملفات الثروات النفطية والغازية، ومصافي عدن، التي تحوّلت من أدوات تنموية إلى أدوات ضغط سياسي تُستخدم لتعطيل أي مشروع نهضوي في الجنوب، قد يُسجَّل لصالح شعبه، ولصالح التحالف العربي، كنموذج لمدينة محرّرة عقب الانتصار على جماعة الحوثي وطردها منها.
ورغم أنني لست منخرطًا بشكل مباشر في تفاصيل هذا القطاع، إلا أن اطلاعي المستمر على واقع ملف كهرباء عدن، واستماعي إلى شكاوى أهلها، وتحليلي لخلفيات هذه الأزمة، يقودني إلى قناعة راسخة: ما يحدث لا يمكن اختزاله في سوء إدارة أو ضعف إمكانيات، بل هو نتاج لسياسات متعمدة تجاوزت الإهمال إلى مستوى التخريب الممنهج.
عدن اليوم تدفع ثمنًا مضاعفًا: صيف ملتهب يكشف هشاشة شبكة كهربائية مترنحة، وواقع سياسي يناقض تطلعات شعبٍ يتوق لاستعادة قراره وكرامته. ومع أن أزمة الكهرباء تبدو الأكثر إلحاحًا، إلا أنها مجرد واحدة من ملفات عديدة لن تجد طريقها إلى الحل إلا في إطار مشروع وطني عادل، يعيد للجنوب حقوقه، ويمنح عدن مكانتها المستحقة بعد عقود من التهميش والتعطيل المتعمد!!!