دبيب الخمرة في نسيج الإبداع الشعري (1 – 2)

> علي الزبير

>
علي  الزبير
علي الزبير
تعد الخمرة واحدا من العناصر الموضوعية التي لم تغب عن نسيج الإبداع الشعري العربي في عصوره المختلفة، فقد تردد ذكرها في العصر الجاهلي عند كثير من الشعراء يتصدرهم الأعشى الكبير (قيس بن ميمون)، وبعد ظهور الإسلام لم يحل نزول القرآن بتحريم الخمرة دون احتفاء كثير من الشعراء بوصفها والتغني بتأثيرها، فإذا كان الأخطل (غياث بن غوث التغلبي) - الذي يعد من أبرز الشعراء الأمويين الوصافين للخمرة - كان يحتمي بنصرانيته، فإن شعراء أمويين آخرين لم يمنعهم اعتقادهم بالدين الإسلامي من المجاهرة بوصفها، والتصريح بعقد مجالسها، والدعوة إلى معاقرتها.
ففي صدر هذا العصر اشتهر الأقيشر الأسدي، وفي آخره برز الوليد بن يزيد بن عبدالملك؛ فعند هذين الشاعرين تأتي الخمرة في مقدمة موضوعات شعرهما، وعندهما بدأ موضوع الخمريات يستقل بقصائد ومقطوعات بعد أن كان يرد جزءًا من القصيدة إلى جانب موضوعات أخرى.
وإذا تقدمنا مع عجلة التاريخ إلى زمن العباسيين فإننا سنجد موضوع الخمريات يحقق أعلى درجة من الازدهار، ليس على مستوى الكم فحسب، ولكن على المستوى الفني، وعلى الرغم من كثرة الشعراء والكتاب والخلفاء والأمراء والقيان ومما لا يسهل حصرهم، قد طرقوا باب الخمريات؛ فإن ثمة إجماعًا على أن الشاعر أبا نواس (الحسن بن هاني) يعد شاعر الخمر الأكبر، ليس في العصر العباسي فحسب، بل في تاريخ الشعر العربي قاطبةً؛ ففي إبداعه الخمري الغزير الذي تضمنه ديوانه يتجلّى بوضوح كيف أنه وجد في الخمرة وسيلةً تحقق له توحد ذاته مع ذوات ندمائه في فلسفة اللذة الحسية، مجاهرًا بمجونه ورؤيته العبثية للقيم الدينية والأخلاقية، بل إنه لا يتردد في أن يعلن الخمرة (ابنة العنب) أمًّا بديلةً عن أمّه الحقيقية التي افتقد حنانها ودفء مشاعرها، فيقول:
“قُطْرَبُلٌ مرْبعي، ولي بِقُرَى الــ ـكَرْخِ مَصِيفٌ، وَأُمّيَ العنبُ”
وما تزال العصور الأدبية ما بعد العصر العباسي إلى العصر الحديث تشهد شعراء يهتمون بفن الخمريات ويخلصون في وصفها وتصويرها، والحديث عن أثرها في النفوس والأجسام، ولكن السؤال الذي يتوخى هذا المقال الإجابة عنه هو: كيف تجلّت الخمرة في نسيج الإبداع الشعري العربي؟.
والحق أن الإجابة عن هذا السؤال أوسع من أن تتسع له مقالة محدودة الحيز، ولكن حسبنا أن نقدم هذه الشذرات التي هي أقرب إلى كونها خواطر فكرية من أن تكون رؤية نقدية فاحصة.
**الخمرة جزءاً من بنية النص:
لقد سبقت الإشارة إلى أن ذكر الخمرة لم يغب عن نصوص الشعر الجاهلي، غير أنها لم تستقل بنصوص كاملة، بل ترد إلى جوار لوحات موضوعية مختلفة تشكل البنية الموضوعية للقصيدة الجاهلية وقصائد العصور اللاحقة التي سارت على نهجها، على أن اللوحة الخمرية لا تتخذ موضعًا ثابتًا في بنية القصيدة، فقد ترد في مفتتحها، كما هو الحال عند عمرو بن كلثوم الذي افتتح معلقته بلوحة خمرية، منها قوله:
“أَلاَ هُبِّي بِصَحْنِكِ فَاصْبَحِيْنَا
وَلاَ تُبْقِي خُمُوْرَ الأَنْدَرِيْنَا
مُشَعْشَعَةً كَأَنَّ الحُصَّ فِيْـــهَا
إذَا مَا المَاءَ خَالَطَهَا سَخِيْنَا
تَجُوْرُ بِذِي اللَّبَانَةِ عَنْ هَوَاهُ
إِذَا مَا ذَاقَهَا حَتَّى يَلِيْنَا”
وقد يرد ذكرها في حشو القصيدة أو في آخرها، كما في كثير من قصائد الأعشى، من ذلك قوله بعد عدة أبيات افتتح بها القصيدة:
“ولقدْ شربتُ الخمرَ ترْ
كُضُ حَوْلَنَا تُرْكٌ وَكَابُلْ
كَدَمِ الذّبِيحِ غَرِيبَة،
مِمّا يُعَتِّقُ أهْلُ بَابِلْ”
وواضح أن الأعشى هنا يشير إلى خاصية مهمة من خصائص الخمرة، وهي كونها معتّقة، أي مرّ عليها زمن طويل منذُ وضعت في أوعيتها لتتخمر، ولأن الخمرة كلما طال زمن تعتيقها زادت جودتها، وقوة تأثيرها، فقد جعل الشعراء الجاهليون والمتأخرون يبالغون في هذه الصفة، فمنهم من يدعي أنها عُتِّقت خمسين عامًا، ومنهم من يزعم أن خمرته معتقة منذُ زمن النبي نوح - عليه السلام - بل يذهب أبو نواس في بعض قصائده إلى أن خمرته معتقة منذ أن خلق الله الكون والنجوم.
**الخمرة موضوعاً مستقلاً**
يعد هذا التجلي للخمرة هو الأبرز في مسار الإبداع الشعري العربي في عصوره المختلفة؛ فكثيرًا ما توقف الشعراء عند وصفها ووصف متعلقاتها من الدنان والكؤوس والزجاجات والندمان والأماكن التي تدار فيها الأقداح إلى غير ذلك، وهو جانب كبير لا يتسع المقام للتمثيل له، ولكن نكتفي بالإشارة إلى أن أحدًا من شعراء العربية في العصور المختلفة لم يوفق في وصف الخمرة والتعمق في ماهيتها، واختصاصها بقصائد مستقلة، كما فعل الشاعر العباسي أبو نواس، ويكفيك أن تقرأ قوله:
“فأرسلت من فم الإبريق صافية
كأنما أخذها بالعين إغفاءُ
رقّت عن الماء حتى ما يلائمها
لطافةً وجفا عن شكلها الماءُ
فلو مزجت بها نورًا لمازجها
حتى تَولـَّد أنوارٌ وأضواءُ”
لتدرك مدى القداسة التي تحتلها الخمرة في نفسه.
**أستاذ مشارك - جامعة عدن**

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى