شعراء يتعففون في الغزل

> د. وليد قصاب

> ما أُثِر عن بعضِهم من أقوال تدعو إلى التزام العفَّة في الغزل، وعدم الخروج إلى الفُحْش والمجون، وما يخدش الحياء، أو يُسْتَحيا من ذكره.
يمتدح نصيبٌ - شاعر الغزل - بعفَّته، فيقول: “والله ما قلت بيتًا قط تستحيي الفتاة الحيية من إنشاده في ستر أبيها”؛ وبلغ من عفَّته أنه لم يُشبب بامرأة غير زوجه، نقل السيوطي أن نصيب بن رباح كان عبدًا أسود، وكان عفيفًا، وكان لا يشبب قطّ إلا بامرأته.
ودافع ابن المولى عن عفَّته في الغزل، وأكَّد حرصه عليها، وأقسَم أنه لم يذكر في شعره قط امرأةَ مسلم ولا معاهَد بسوءٍ، وكان يُورِّي عن المرأة بقوسه.
رُوِي أن الحسن بن زيد دعا بابن المولى، فأغلظ له وقال: أتشبب بحرم المسلمين، وتنشد ذلك في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الأسواق والمحافل ظاهرًا؟، فحلف له بالطلاق أنه ما تعرّض لمحرم قط، ولا شبّب بامرأة مسلم، ولا معاهد قط، قال: فمن ليلى هذه التي تذكر في شعرك؟ فقال له: امرأتي طالق إن كانت إلا قوسي هذه، سَمَّيتُها ليلى لأذكرها في شعري، فإن الشعر لا يحسن إلا بالتشبيب، فضحك الحسن ثم قال: إذا كانت القصة هذه، فقل ما شئت.
وطوى النقد الذي وجّهه بعض الشعراء إلى غزل عمر بن أبي ربيعة ملمحًا خلقيًّا؛ إذ أخذ عليه خروجه على قواعد الأدب والعرف في حديثه عن المرأة، وامتهانه شأنها، حتى لتبدو صورتها فيما يسوقه عنها مبتذلة متقحمة، بدل أن تكون عفيفة حيية، شأن النساء الحرائر الشريفات.
قال كثير لعمر: “يا أخا قريشٍ، والله لقد قلت فأحسنت في كثير من شعرك، ولكنك تخطئ الطريق، تشبّب بها، ثم تدَعها وتشبب بنفسك، أخبرني عن قولك:
قالت لترب لها تُحدِّثها
لا تُفسِدِنَّ الطواف في عُمَرِ
قومي تصدِّي له لأبصره
ثم اغمزِيه يا أختُ في خَفَرِ
قالت لها: قد غمزتُه فأبى
ثم اسبطرَّتْ تشتدُ في أثري
أردت أن تنسب بها فنسبت بنفسك، والله لو وصفت بهذا هرةِ أهلك - أو قال منزلك - كنت قد أسأت صفتها، أهكذا يقال للمرأة؟!، إنها توصف بالخفر، وأنها مطلوبة ممنعة، هلا قلت كما قال الأحوص:
لقد منعَتْ معروفَها أمّ جعفر
وإني إلى معروفها لفقيرُ”
ومن الواضح أن كثيرًا لم يكتفِ بنقد شعرِ عمرَ لخروجه على قواعد الخُلُق العربي في الغزل، بل قارن بين إظهاره المرأة رخيصة سهلة وبين إظهارها ممنعة حصينة في قول الأحوص.
قال ابن رشيق: “قال بعضهم - أظنه عبد الكريم - العادة عند العرب أن الشاعر هو المتغزل المتماوت، وعادة العجم أن يجعلوا المرأة هي الطالبة والراغبة المخاطبة، وهذا دليل كرم النَّحِيزة في العرب وغيرتها على الحُرم”.
ومن قبيل هذا المَلْمَح الخُلُقي في نقد شعر الغزل ما نُسِب إلى كُثيرٍ كذلك من أنه أخذ على نصيب قوله:
أهيم بدعد ما حييت فإن أَمُتْ
فواحزَني من ذا يَهِيمُ بها بعدي ؟!
إذ بدا وكأنه يعكس غَيبة نخوة، أو قلة غَيرة على المرأة التي يحب، ولذلك قال له: كأنك اغتتمت ألا يفعل بها بعدك، وفي رواية: أيهمك مَن ينكحها بعدك والرجال أكثر مما تظن؟!.
ودعا بعض الشعراء إلى الامتناع عن الغزل كله، ولعله رأى فيه غرضًا غير جادٍّ، أو معنى يذهب بوقار الرجل وهيبته، ولا أشهر في هذا من قصيدة ابن الوردي التي يخاطب فيها ولده، ويضمنها مجموعة من النصائح، واستهلَّها بقوله:
اعتَزِلْ ذكرَ الأغاني والغَزَلْ
وقُلِ الفصلَ وجانِبْ مَن هزَلْ
ولجأت طائفةٌ من الشعراء إلى عدم ذكر المرأة المحبوبة بشكل صريح، والتكنية عنها بأمر آخر؛ إما حياءً وإما خوفًا من عقاب أولي الأمر، الحريصين على إرساء قواعد العفة والأخلاق الحميدة، والتصدي لمن يخرج عليها، كعمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي تقدَّم إلى الشعراء أنه لا يشبب أحد منهم بامرأة إلا جلده، فقال حميد بن ثور يكني عن المرأة بالسرحة - أي الشجرة العظيمة:
سقى السرحةَ المِحْلالَ والأبطح الذي
به الشري غيثٌ مدجن وبروقُ
فيا طِيب رياها ويا بردَ ظلِّها
إذا حان من حامي النهار ودُوقُ
وهل أنا إن علَّلتُ نفسي بسرحةٍ
من السرح مسدود عليَّ طريقُ.
**د. وليد قصاب**

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى