الشهيد عبداللاه قائد.. ابن لحج الجريحة

> د.هشام محسن السقاف

>
د.هشام محسن السقاف
د.هشام محسن السقاف
استشهد عبداللاه قائد ليلحق بركب طويل من أبناء لحج، قتلوا بدم بارد على يد الغدر والإرهاب، وخاصة في الحوطة المحروسة في حوادث إرهابية يكتوي بنيرانها أهلها الصابرون والصامدون والمغلوبون على أمرهم دون أن تصل السلطات الأمنية والعسكرية والقضائية والسلطات المحلية إلى حلول ناجعة تخرج الحاضرة العبدلية من براثن الفوضى والرصاص والقتل لتعود واحة للسلم الاجتماعي والسكينة العامة والوفاق والاتفاق بين أبنائها وكل القاطنين في الحياض اللحجي، داخل المحروسة أو على ضفاف الوادي تبن من رأس الوادي إلى دلتاه على (سيف) البحر عند الحسوة والعماد وإلى الجوار المكمل من المديريات الأخرى في لحج من أبناء الصبيحة وردفان ويافع والمسيمير والمقاطرة والقبيطة التحاماً وتداخلاً مع عروس البحار عدن الباسلة، على اعتبار أن الأمن مسئولية جمعية ومجتمعية وما يصيب الحوطة هو بلا شك مصاب للجميع والخروج منه مسئولية الكل.
عبداللاه قائد من عائلة لحجية تمتد بجذورها إلى (قدس) في تعز كما هو حال كثير من أهالي لحج المرتبطين بشبكة من الوشائج الاجتماعية بشتى مناطق البلاد. ولأن الحوطة المنسوبة إلى ولي الله مزاحم بلجفار مدينة مدنية مجتمعياً وجاذبة لا طاردة للسكان، فهي أقرب لمنتهاها على البحر مدينة عدن الـ(كوزموبوليتين) بطبعها، و“المنتهى” المشار إليه يأتي اتساقاً مع ما قاله الشاعر القديم واستشهد به (القمندان) في هديته:
تقول عيسى وقد وافيت مبتهلاً × لحجاً وبانت الأعلامُ من عدنِ
أمنتهى الأرضِ يا هذا تريد بنا × فقلتُ كلا، ولكن منتهى اليمنِ
فكما هو العدون والتعدن في عدن، يكون الـ(تَلَحُجُ) حالة مثلى للانتقال النوعي من حالة اجتماعية إلى الاندماج والتماهي في الحالة (اللحجية) الجديدة بـ(التلحج) الذي يسطع جلياً في حامل لواء (الأغنية) اللحجية المبهرة بعد القمندان (فضل محمد اللحجي) العبقري موسيقياً بالفطرة والسليقة مع تمرين ومران قليل من مربيه (الأمير أحمد فضل القمندان) ليغدو الصوت الذي يحفظ (القمندان) موسيقياً على مدى الأجيال، والمغاير بفعله اللحني والغنائي المبهر حقاً للدور القمنداني خروجاً منه لا خروجاً عليه، بشكله التطويري الجميل بريادته للدور الثاني للأغنية اللحجية.
حسبنا من هذه الإطالة التدليل على الحالة اللحجية في نشوئها الاجتماعي والتكوين الإنساني، وغير ما سقناه من مثال تنتصب أمثلة أخرى في مجموعها العددي أجيالا متعاقبة من أهالي هذه الأرض. ولذلك كان هذا السكون وهذه السكنى لهذه المدينة في الوعي والإدراك والوجدان لرجل رائع مثل عبداللاه قائد السياسي والقائد الطلابي والدبلوماسي المخضرم، فهي ملمح حاضر في الشخصية المتألقة في كل مراحلها.
على منتصف السبعينيات الماضية من القرن الفائت كنا كطلاب ببزاتهم البيضاء والداكنة نتهجأ مفردات العمل النقابي الطلابي مبهورين بقدرة قادة العمل الطلابي أمثال عبداللاه قائد ومحمد ناجي سعيد ومحمد عبدالرحمن عمر ومحمد عبدالرزاق وصالح غالب قاسم وغيرهم على تبسيطه وتحويله إلى طريق لإثبات الذات واكتمال الشخصية.
وكان عبدالله الأبرز بين هذه التوليفة الرائعة من قادة العمل الطلابي، لكنه كان قد تصلب عوده في فترات مبكرة في العمل السياسي والحزبي، حيث التحق باكرا بحزب الشعب الديمقراطي قبل أن يندمج في الحزب الاشتراكي اليمني بعد ذلك ليتبوأ فيه فقيدنا الغالي مواقع متقدمة في منظمته في الاتحاد السوفيتي، تزامناً مع دراسته العليا فيها، تشاركه في رحلة الحياة والعمل السياسي والدراسة زميلته د. إلهام محمود الجبلي - رحمها الله تعالى، وهي سليلة أسرة لحجية عريقة. وعندما نلتحق بالدراسة الجامعية في موسكو عام 1986م كان الأخ عبداللاه قائد المسئول الأول عن الحزب الحاكم في الجنوب - الاشتراكي اليمني - في عموم الاتحاد السوفييتي، ومن موقعه كان صانعاً للعمل الدبلوماسي والحزبي بين مجموع الطلاب الذين يقدرون بالآلاف.
ويحسب للفقيد تلك الحيوية والديناميكية المبهرة في العمل السياسي بالرغم من فترات الوفاق والاختلاف معه في مراحل مختلفة، لكنه يبقى على الصعيد الشخصي رجلاً رائعاً في التعامل مع زملائه ورفاقه، بينما تظل (لحج) بتفاصيلها المكانية وشخوصها الإنسانية حاضرة في وجدان عبداللاه قائد.
ومع الهرولة التي شهدتها البلاد العام 1989م والذي يليه نحو الوحدة اليمنية ظل عبدالله متفكراً في المشهد وغير متحمس للالتحاق بركب المتسابقين على ترتيب أوضاعهم الوظيفية، معتقداً أن (الحزب) كفيل بترتيب أوضاع كوادره، وهو ما كاد يفقده (الوظيفة) لولا دفع وتشجيع من زملائه للذهاب إلى الوطن واستكمال إجراءات الوظيفة في آخر لحظة، حيث التحق بالسلك الدبلوماسي وعاد إلى موسكو بعد سنوات قنصلاً في السفارة بعد أن خدم في عدة سفارات أخرى.
كانت مهارات عبداللاه قائد السياسية والدبلوماسية في النصف الثاني من الثمانينات الماضية تجعله الرجل الأول في السفارة وبين عموم الطلاب مقارنة بالسفير هناك، ورغم التقاطعات الكثيرة التي يمثلها تباين وجهات النظر في كثير من القضايا فيما بيننا إلا أن عبداللاه ظل قريباً منا، فإن أغلقت السياسة بابا ظل باب الزمالة والانتماء لذات المكان “اللحجي” مفتوحاً عند عبداللاه متشاركين معه السراء والضراء بصفاء روح نادر.
ولعل من الإنصاف أن أذكر مشاطرة رفيقة حياته الدكتورة إلهام الجبلي تلك المسيرة الحياتية المفعمة بالعلم والنشاط وبناء عش الزوجية طوبة طوبة، بالرغم من أن حيوية عبداللاه وعمله السياسي لا يعرف الراحة ولا يلتزم بالمواعيد، وليس بيته استثناءً من ذلك.
وبانتقاله إلى الوطن قبيل حرب 1994م وما أعقبها من مشاهد مؤلمة وإقصاءات كثيرة وتنكر لجهود الآخرين حتى داخل المكونات الواحدة، يتجه إنسانياً للأقرباء والأصدقاء وأبناء (الحوطة) تحديداً بحميمية قلَّ أن تتكرر، حاملاً أعباء رعاية “مكسيم” و“مروة” بعد أن رحلت رفيقة عمره الدكتورة إلهام (رحمها الله)، وحسبي أن عبداللاه السياسي والمناضل الذي عركته السياسة وهو في ميعة صباه أثر عليه رحيل قرينته أيما تأثير حاملاً ذكراها معه في كل خطو يخطوه في ما تبقى من حياته، صارفاً جل وقته لخدمة الناس وزيارة أقاربه في الحوطة التي أحبها من كل وجدانه.
قبل أسابيع من وفاته كان يسعف طفلة صغيرة من أقربائه إلى أحد المستشفيات الخاصة فاعلاً ما لا يفعله الآباء أحياناً، وينام بجوار المستشفى في سيارته لكي يكون قريباً من الطفلة المريضة.. رحم الله الفقيد العزيز عبداللاه قائد!.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى