قراءة في قصيدة (ثورة الشك)بمناسبة مرور (40) عامًا على رحيل السيدة

> عبد الله الجعيثن

> شك العاشق هو حلم الرجل المستيقظ .. لاشيء تقريبًا .. وغالبًا .. سوى بخار الحب يتصاعد .. الحب يلد الغيرة .. والغيرة تصنع الشك .. والعلاقة الجدلية بين الشك والحب معقدة .. الشك يقوي الحب .. واليقين يخمده .. والحب يفتح نوافذ الخيال على ساحات للشك لم تكن موجودة .. وكلما زاد الحب وتمكن زاد القلق من الشك .. لأن الحبيب هنا غال جدًا .. أغلى الأشياء والأحياء .. ومن المؤلم الشك في امتلاك حبه .. وقلبه .. لأن هذا الشك يهدد بخسارة كل شيء.
و(ثورة الشك) قصيدة من أجمل القصائد التي شدت بها سيدة الغناء العربي (أم كلثوم) للأمير عبدالله الفيصل، وهي موجودة في ديوانه (وحي الحرمان) ولكن بعنوان: (عواطف حائرة):
أكاد أشك في نفسي لأني
أكاد أشك فيك وأنت مني
يقول الناس إنك خنت عهدي
ولم تحفظ هواي ولم تصني
وأنت مناي أجمعها مشت بي
إليك خطى الشباب المطمئن
وقد كان الشباب لغير عود
يولي عن فتى في غير أمن
وها أنا فاتني القدر الموالي
بأحلام الشباب ولم يفتني
كأن صباي قد ردت رواه
على جفني المسهد أو كأني
يكذب فيك كل الناس قلبي
وتسمع فيك كل الناس أذني
وكم طافت علي ظلال شك
أقضت مضجعي واستعبدتني
إلى آخر الأبيات .. إن هذه القصيدة تحس فيها بنبض القلب .. وهي إلى (العواطف الحائرة) أقرب منها إلى (ثورة الشك)، ولكن القصائد حين تُغَنَّى يختار لها عنوان أقوى، وإن لم يكن أكثر تعبيرًا ودقة.
والشك في القصيدة ليس من نوع حلم الرجل المستيقظ .. أو بخار الحب الذي ليس له وجود .. هناك حديث الناس .. هناك واشون .. هناك من نقل للعشاق كلامًا خطيرًا عن خيانة الحبيب .. ولكن عواطف الشاعر حارت بين ثقته في حبيبه .. وبين كلام الناس .. حارت عواطفه بين قلبه .. وأذنه:
يُكَذِّبُ فيكَ كُلَّ الناس قلبي
وتسمع فيك كل الناس أُذني
حالة من الصراع .. والصراع هو جوهر الدراما .. والحب في أعماقه نوع من الدراما .. وليست الدراما هنا بمعنى الأحزان والمآسي، كما يفهم كثيرون هذه الكلمة خطأ .. بل الدراما تشمل الأمرين (المآسي - التراجيديا) و(المهازل - الكوميديا) والحب بين .. بين .. فيه سعادة كبيرة .. وفيه ألم وشقاء .. فيه مآس وأحزان وفيه مهازل أحيانًا .. وفيه أطراف أخرى .. أبطال شر .. منهم هؤلاء الوشاة الكاذبون الذين يزعمون للعاشق أن محبوبه يخونه .. إما عن حسد .. أو حقد.. أو رغبة جبلية في الشر .. والعاشق مسكين .. والعشق يجعله حساسًا .. وقريبًا من الشك بلا كلام وشاة .. وبلا أسباب .. لمجرد أن المعشوق موجود .. وجميل .. ويعيش بين الناس .. ويراه الناس .. ولا يستطيع العاشق أن يخبئه في قلبه.
وإذا كان الحب من طبعه أن يثير الشك في أثبت الأمور .. فما الحال حين يقول الناس .. أو يتقولون .. إن الحب - بطبعه - يغذي هذه الأقاويل ويذهب بها إلى آخر مدى .. ويدخل حولها في صراع مع العقل .. والنتيجة الحتمية هي: (الألم) .. ولا يكاد يوجد حب بلا ألم إلا في الجنة - إن شاء الله تعالى أما حياتنا الدنيا فالحب فيها - على لذته - مشوب بألم الشك .. والغيرة .. والشوق .. والهجر .. والحرمان.
وحين يثور الشك في نفس العاشق فإنه يثور على إنسان قوي .. كبير .. مهما كان العاشق نفسه قويًا .. وكبيرًا .. فإن في المحبوب قوة ذاتية هائلة .. تشبه القوة الذرية .. قوة الحبيب من سحره الخاص .. ومن ضعف العاشق أمامه .. فهي قوة مزدوجة !.
وأنت مناي أجمعها مشت بي
إليك خطى الشباب المطمئن
حين يكون هذا الحبيب هو جميع المنى فهو القوة بعينها لا يستطيع العاشق الوقوف أمامها أو المغامرة بفقدانها !، ولهذا تكون ظلال الشك أسواط عذاب:
وكم طافت علي ظلال شك
أقضت مضجعي واستعبدتني
كأني طاف بي ركب الليالي
يحدث عنك في الدنيا وعني
لا يوجد حد لهواجس العاشق ولا لآلامه إلا أن يتأكد أن حبيبه له .. وحده.
والحب النبيل كما في قصيدة (ثورة الشك) أو (عواطف حائرة) يستبعد الخيانة ابتداء، لأن حُبًا كهذا لا ينتقي طبيعة إلا من لا تتصف بالخيانة .. ولكن حين يتمكن الحب يعمل عمله كما هي عادته دائمًا .. ويشعل جذوة شكوكه أدنى كلام .. فكيف حين يتوارد الكلام ؟
**عبد الله الجعيثن**

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى