لماذا كانوا يحاربون الفن والفنان في الجنوب ؟

> مختار مقطري

>
 مختار مقطري
مختار مقطري
بعودة الفنانة الكبيرة صباح منصر للغناء، قبل نحو عقد ونصف العقد، تهافت كثير من الشعراء والملحنين لتغني من أعمالهم، وكنت في العام 2000 لا أزال كاتبا مغمورا في صحيفة «الأيام» الصادرة في عدن، لكن دفعني الغرور والطموح لمحاولة الحصول على موافقة من الفنانة الكبيرة صباح منصر، لتغني من كلماتي، أغنية بعنوان (يا عدنية)، يقول مطلعها ( يا عدنية،، ياخفة دم يا عفوية،، يا عصرية ،، يا أمي وأختي وحبيبتي،، يا عدنية) وقد أعجبت صباح منصر بالكلمات، ووافقت على غنائها، ووضع لها الفنان القدير نجيب سعيد ثابت، لحنا بديعا، وكانت هذه الأغنية من ضمن مجموعة أغاني لشعراء آخرين، تقدم بها نجيب و صباح إلى تلفزيون عدن لإجازتها وتسجيلها، وكنت قبل ذلك قد قمت بنشر كلمات الأغنية في صحيفة «الأيام»، وجاءتني مقالات إعجاب من عدد من الزملاء المهتمين، ورسائل بالجوال، لكن وبعد انقضاء أكثر من شهر، تكبدت خلالها فنانتنا الكبيرة صباح منصر عناء البروفات والمواصلات من كريتر إلى الشيخ عثمان، وكذا جهود فناننا القدير نجيب سعيد ثابت، في التلحين والإشراف على البروفات، تسرب خبر من القناة الثانية (تلفزيون عدن) أن الكلمات لم تحصل على الموافقة من قبل لجنة إجازة النصوص الغنائية، لأنها أغنية انفصالية.
الفنانة صباح منصر و الفنان نجيب سعيد ثابت
الفنانة صباح منصر و الفنان نجيب سعيد ثابت

وهكذا حرمني الرقيب السياسي من شرف كبير أن تغني من كلماتي الفنانة الكبيرة صباح منصر، وتدخل لحماية الوحدة اليمنية من أغنية تغزل كاتبها بمعشوقته عدن، وأنا أعرف أعضاء لجنة إجازة النصوص تلك، فقد كانوا من المبدعين، ولا يمكن لهم منع حرية التعبير، ولذلك فإن الرقيب السياسي الشمالي تدخل لمنع الأغنية، سواء بحضوره شخصيا، أو بفرض هيبته وهو غائب، وقد تخلى عني حينها زملائي بعدن، من المهتمين، فلم يدافعوا عني وعن الأغنية بمقالاتهم، فقد كانت الأقلام موثقة والآراء محجوبة، وخصوصا في الفن، ولم يغضب لي منهم غير اثنين، الأول هو الإعلامي الكبير الراحل شكيب الذي سارع لاستضافتي في برنامج من إعداده وتقديمه بإذاعة عدن، وكان حريصا على إثارة موضوع أغنية (يا عدنية) وقد قلت في تلك الاستضافة إنني من أبناء عدن ولا يمكن لي أن أتغزل بغير عدن، فهي معشوقتي الأولى، أما الثاني فهو الزميل الراحل عبدالقادر خضر، الذي كان محررا للصفحة الفنية في صحيفة ثقافية كانت تصدر في تعز، وقد نشر مقالا بقلمه عن الواقعة مع نص الأغنية، أكد فيه أنه (كان خطأ ألا يجيز تلفزيون عدن كلمات هذه الأغنية الجميلة). أضف إلى ذلك أن عودة الفنانة الكبيرة صباح منصر للغناء قد أخافتهم جدا ، لأنها رمز من رموز الحركة الأدبية والفنية بعدن، في الستينيات من القرن الماضي، وكانت واحدة من نجوم الطرب والغناء في العصر الذهبي للموسيقى والغناء بعدن في تلك الفترة. ولذلك سيكون لأغنية ( يا عدنية) تأثير كبير على الجمهور بعدن لو غنتها صباح بصوتها الملائكي، فقد كانوا حريصين على طمس وتشويه التاريخ الحضاري لعدن، فكريا وثقافيا وأدبيا وفنيا واجتماعيا، لينجحوا في تحويلها إلى قرية.
وفي العام 2004، شطب الرقيب السياسي فقرة كاملة من مقال لي نشرته صحيفة ثقافية تعزية، قلت فيها ما معناه (إن الوحدة اليمنية إن كانت قد تمت جغرافيا وسياسيا إلا أنها لم تتم فنيا)، فما الذي أخاف الرقيب السياسي في هذه الفقرة؟ أخافه أنها حقيقة، فقد غربلوا الجغرافيا لإلغاء الحدود السابقة بين الجنوب والشمال، وتنكروا للمواثيق والاتفاقيات السياسية التي أدت إلى ضم دولة لصالح دولة أخرى، لأن الوحدة، في نظرهم، كانت تحقيق أطماع وهروب إلى الأمام.
وبقي ويبقى الفن، ليؤكد أن الشعب لايزال شعبين، لأنه إبداع الشعب، فالفن في الجنوب، إلى جانب الأدب تطور وازدهر منذ ثلاثينيات القرن الماضي، بسبب تطور الحركة الفكرية والثقافية، فعرفت عدن ولحج وأبين وحضرموت، المسرح والسينما والإذاعة والتلفزيون والمنتديات الأدبية والندوات الموسيقية، وازدهرت الحفلات الموسيقية الأهلية، وبرز في الجنوب عمالقة في المسرح والموسيقى والغناء، أما في الشمال فقد كان الغناء محرما حتى قيام ثورة 26 سبتمبر، وحرص نظام الحكم على عدم تطور الفن، في الموسيقى والغناء، وحرص على رفع شعار المحافظة على التراث، متوهمين أن هذا الشعار يعني أن يستمر الغناء على آلة العود فقط، في حين كان المطرب في الجنوب يغني مع الفرقة الموسيقية، وكان الجمهور في الجنوب شغوفا بالاستماع للغناء العربي الحديث لأم كلثوم وفريد الأطرش ومحمد عبدالوهاب وفنانيه في الجنوب مثل أحمد قاسم والمرشدي وبن سعد وغيرهم، ولذلك حاربوا الفنان الجنوبي بعد الوحدة وحولوه إلى متسول، ولذلك قام الرقيب السياسي بشطب تلك الفقرة من مقالي، على الرغم من نشر المقال كاملا، لأن تلك الفقرة كانت قصيرة ومباشرة وتمس قداسة الوحدة، لأنها تفضح اختلاف مستوى الذائقة الفنية بين الشعبين في الجنوب والشمال، فكيف يستقيم إقامة وحدة بين شعبين مختلفين وجدانياً، والموضوع كبير ومهم فأدعوا المهتمين إلى المناقشة والإثراء.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى