ثلاث صور شعرية في ديوان الأغنية العدنية الحديثة

> مختار مقطري

>
مختار مقطري
مختار مقطري
مطلع الخمسينيات، بدأت تظهر في عدن الأغنية العدنية الحديثة، مستفيدة من عطاء ثري لصانعيها من الفنانين الكبار، مثل خليل محمد خليل وسالم أحمد بامدهف وأبوبكر فارع ومحمد سعد عبدالله وأحمد قاسم الذي تبلورت على يديه الأغنية الحديثة في أحدث صورها الفنية، مما ميزها عن الأغنية التقليدية.
وقد ارتقت الألحان ارتقاء المواهب العظيمة لفنانينا الكبار، وبالتالي ارتقت الكلمة المغناة، أو لنقل إن الإلحان هي التي ارتقت لارتقاء الكلمة المغناة، التي كتبها مثقفون شعراء وغير شعراء، لحرصهم على الإسهام والمشاركة في ازدهار فن الغناء والموسيقى، لما لهما من تأثير على الارتقاء بالوجدان المجتمعي والذائقة العامة، مثل لطفي جعفر أمان وأحمد شريف الرفاعي وأحمد الجابري ومصطفى خضر وغيرهم. وقد كتبوا النص الغنائي بشاعرية مرهفة، ومقدرة عالية في التصوير الشعري، وسوف أستعرض ثلاثة نماذج للدلالة على تطور كتابة النص الغنائي التي صارت اليوم أشبه بسلق بيض.
* في واحدة من روائع الغناء العدني الحديث (المي والرملة) تلحين وغناء أحمد قاسم، يقول الشاعر الغنائي الكبير أحمد الجابري:
باذكرك بالبحر والليل في صيرة
وأخاف عليك الجسر يفلت من الغيرة
إن مفردة (المي) عدنية قح، لكنها غير غنائية، لكن الجابري يؤكد عكس ذلك، عندما أضاف بعدها كلمة( الرملة) فكأنه نقل شاطئ صيرة نقلا محسوسا إلى القصيدة، فظهر الإيحاء الشعري الجمالي في مفردة (المي)، لكن ما هو أجمل صورة الجسر وهو يسقط من الغيرة، ان يصبح الجسر عاشقا، ان يشعر الجماد بالغيرة، هنا يتجلى حب الشاعر الكبير لمحبوبته فيغار عليها حتى من الجماد، لكن ما هو أجمل ان الشاعر لم يتخيل سقوط الجسر سقوطا مدويا فيه عنف وزلط وحديد واسمنت.. الخ، ولكن الجسر سوف (يفلت)، وفي هذه الكلمة ضعف واستسلام وانهزام للجسر غريمه في عشقه لمحبوبته، صورة شعرية بمنتهى الجمال التقليدية.
* الشاعر الغنائي الكبير مصطفى خضر، رأى أن بحر حقات هو الآخر يشعر بالغيرة، من لقاء دافئ جمع حبيبين على شاطئه، في قوله من أغنية (نعم أهواك) تلحين وغناء أحمد قاسم:
(وحقات تهدر أمواجه
كأنه من لقانا يغير)
وهو مثل أحمد الجابري، بعث الحياة في من لا حياة فيه، ولكن غيرة الجسر كانت ناعمة بسبب الحزن، بينما كانت غيرة بحر حقات ثورة على الحبيبين، فهدرت أمواجه غضبا، وجاء تلحين أحمد قاسم لهذا البيت تلحينا هادرا، مما يعني انسجام فني بين الشاعر والملحن في صورة شعرية بمنتهى الجمال، في واحدة من أجمل أغانينا العدنية الحديثة.
* أما الشاعر الكبير أحمد شريف الرفاعي، فلم يكتف بمشاهدة الكواكب هو ومحبوبته، وهما على الأرض، كعادة الشعراء، بل سافر معها إلى القمر وإلى الزهرة، وما هي وسيلة السفر؟ إنها مركب مصنوع من الأحلام، وذلك في صورة شاعرية بديعة، تلحين وغناء أحمد قاسم:
(على مركب من الأحلام
شراعه من سحاب وغمام
ماندريش فين يودينا
وفين نطرح مراسينا
نسافر للقمر مرة
ومرة لكوكب الزهرة).
وما أجمل أن يكون الشاعر الغنائي مثقفا، وما أجمل أن يكون الملحن والمطرب مثقفا، لإبداع أجمل النصوص الغنائية لأجمل وأعذب الألحان.
والموضوع في الأغنية العاطفية موضوع تقليدي، لكن الارتقاء في الكلمة وفي الصورة الشعرية يجعله موضوعاً جديدا فيه معان جديدة، لأغنية حديثة، وهذا ما يفتقر إليه النص الغنائي في الجنوب، وفي كثير من الدول العربية بعد عقود من التميز والإبداع، فعلى الشعراء اليوم العودة إلى كتابة النص الغنائي بتجلياته الإبداعية في اختيار المفردة وابتكار الصور الشعرية الفريدة البديعة والمعاني الجديدة.
ونلاحظ أن النماذج الثلاثة التي اخترناها، كلها من أغان من تلحين وغناء أحمد قاسم، مما يعني نزوع واهتمام أحمد قاسم بتجديد الأغنية العدنية التقليدية، فأوصلها إلى مصاف الأغنية العربية الحديثة، وهو بحق رائد الأغنية العدنية الحديثة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى