دروس من الهجرة النبوية المجيدة(1)

> يحيى عبدالله قحطان

>
يحيى عبدالله قحطان
يحيى عبدالله قحطان
“إلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا * فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ*وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا* وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ”.
تحتفل أمتنا الإسلامية في أول شهر محرم الحرام بذكرى عظيمة ومجيدة ألا وهي ذكرى الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم، ذكرى إشراق شمس الهداية الربانية وانبلاج الأنوار المحمدية في سائر أنحاء المعمورة، وبهذه المناسبة العظيمة نرفع تهانينا وتبريكاتنا لشعبنا اليمني شمالا وجنوبا، وإلى أمتنا العربية والإسلامية، راجين من المولى العلي القدير أن يهل العام الهجري الجديد على الجميع بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والعدل والأمان، والتصالح والوفاق، والتقدم والازدهار، وقد وضعت الفتن والخصام والحروب بين شعوبنا أوزارها.
لقد جاءت انطلاقة الهجرة النبوية المباركة بعد صراعات وتحديات، ومرحلة صعبة مرت بها الدعوة الإسلامية في مكة المكرمة، تحمل فيها رسولنا الكريم سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحابته الأبرار من الأذى والمشاق والشدائد ما لا تحتمله عزائم البشر، لقد جاء رسولنا الكريم يدعو إلى الله للحكمة والموعظة الحسنة، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، يدعو إلى الله تحت راية الإخلاص والتوحيد، شعاره (لا إله إلا الله) لا سادة ولا عبيد، ولا شريف ولا وضيع، ولا أبيض ولا أسود، ولا ظالم ولا مظلوم، الكل أحرار إلا لله الواحد القهار فهم عبيد له، فلم يكن من سادة قريش المتكبرين والمترفين والمرابين إلا أن حاربوا الإسلام ونبي الإسلام، وقالوا عجبا لمحمد..
“أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَٰهًا وَاحِدًا * إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ” كما جعل العبد بلال كفوا لسيد قريش أبي جهل، وصدق الله القائل: “وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ”، وهكذا وجهوا سهامهم وعدوانهم على رسولنا الكريم، مستهدفين بذلك وأد الدعوة الإسلامية في مهدها، لقد مارست قريش شتى أنواع التعذيب والتنكيل والتقتيل والتجويع والحصار والمقاطعة ضد رسولنا الكريم وصحابته الأبرار، لقد حاصروه مع المسلمين اقتصاديا واجتماعيا في شعب من شعاب مكة لمدة ثلاث سنوات، كما ألقوا على جسده الشريف السلا (بعض الأوساخ) وهو يصلي بالمسجد الحرام، فتقوم البنت البارة السيدة فاطمة ـ رضى الله عنها ـ لتميط الأذى عن أبيها وهي تبكي، فيحتضنها رسولنا الكريم، ويجفف عنها الدمع، وهو يقول: “لا تحزني يابنيتي فإن الله مانع أباك”، أجل لا تحزني يا بنت خيرة خلق الله فمهما حصل لأبيكِ من أذى فإن الله مانع أباك، وناصره ومتم نوره ولو كره الكافرون، وعندما ذهب ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلى الطائف يدعو القوم إلى كلمة سوا، وإلى الأمن والسلام والعدل والوئام، لم يكن من هؤلا القوم بدل من أن يكرموه كضيف كريم حل بديارهم، إلا أن سلطوا عليه سفهاءهم وصبيانهم يرمونه بالحجارة، حتى أدموا جسده الشريف، لقد قتل وجرح الكثير من أصحابه، وشج رأسه وكسرت رباعيته، ومثل بعمه الحمزة، سيد الشهداء، في غزوة أحد، ومع ذلك الجفا والعدوان كان ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يقابل السيئة بالحسنة، والعدوان بالعفو والتسامح، ولم يرفع شعار الموت والهلاك والدمار لأعدائه الكفار، بل كان يقول: “اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، إني أرجو الله أن يخرج من أصلاب هؤلاء القوم من يوحدون الله ولا يشركون به شيئا”.
بأبي أنت وأمي يارسول الله، ما أعظمك وما أحلمك وما أرحمك، وصدق من سماك بالرؤوف الرحيم!
ورغم الشدائد والمحن التي واجهها رسولنا الكريم من قبل قريش، لم تكن تلك الشدائد وقساوتها إلا لتزيده إيمانا فوق إيمانه وثباتا فوق ثباته، موقنا أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا، وكيف لذلك المدد الرباني والنور الإيماني، المشبع بعبق الفيض القدسي أن ينضب معينه، أو تخفت شعلته، أو تتوقف حركته، كيف يكون ذلك وجذوته الإيمانية تتقد في قلب رسولنا محمد الصادق الأمين، من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء، ولو لم تمسسه نار، نور على نور.
“وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا” ضع خطين تحت “فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا” ينبلج لك من النفحات القدسية، والأنوار الربانية ما لا تحصى.
وعندما يئست قريش النيل من الإسلام ونبي الإسلام، اجتمعت في دار ندوتهم وقرروا أن القضاء على الدعوة الإسلامية لن يتحقق إلا بالقضاء على الداعي، على محمد رسول الله
“وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ*وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ * وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ”.
وحينئذ أذن الله لرسوله الكريم بالهجرة إلى المدينة المنورة، وها هو ـ عليه الصلاة والسلام ـ يقف على أحد راوبي مكة مودعا مسقط رأسه والعين تدمع (فحب الوطن من الإيمان) قائلا: “والله إنك لأحب البلدان إليَّ ولولا قومك أخرجوني ما خرجت”، بأبي أنت وأمي يا حبيبي يارسول الله، فمهما حصل لك من أذى وعدوان فإن الله حاميك وناصرك، وعائد إلى البلد الأمين، كما وعد سبحانه وتعالى:
“إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادكَ إِلَىٰ مَعَادٍ”.
لقد أذن الله عز وجل لرسوله محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ بالهجرة إلى المدينة المنورة بصحبة أبي بكر الصديق ـ رضى الله عنه ـ وفي ليلة الهجرة طلب رسلولنا الكريم من سيدنا علي ـ رضي الله عنه ـ أن ينام على فراشه، وفوضه بتوزيع الأمانات التي كان سادة قريش يضعونها عند محمد الصادق الأمين، كم هو عظيم أن يكون الوفاء من رسولنا الكريم لرد الأمانات لأهلها، القوم يتآمرون على قتله ورسول الرحمة المهداة والنعمة المسداة يحرص على إعادة الأمانات إلى هؤلاء القتلة، كيف ذلك وهو يقول: “اد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك”، وصدق الله القائل: “وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ”.
وعند خروجه ـ عليه الصلاة والسلام ـ من بيته أخذ حفنة من التراب وألقاها على رؤوس القتلة في باب بيته، وهو يقرأ “وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ”.
بعد ذلك لم يكن من قريش إلا أن وضعت جوائز مغرية لمن يأتي برأس محمد حيا أو ميتا، رُوي أن رسولنا الكريم مكث في غار ثور مع صاحبه 3 أيام، حتى ينقطع طلب قريش عنهما، وعندما رأى أبوبكر أقدام الكفار تقترب من باب الغار شعر بالحزن والخوف، وقال: يا رسول الله لو أن أحدا من الكفار نظر موضع قدميه لرأنا، فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ “ماظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما”.
“إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا”
حقا لقد كانت عناية الله تحرسه، فهذا الحمام يعشعش على باب الغار ويغرد أنشودة السلام لنبي السلام، وإذا بالعنكبوت ينسج على باب الغار خيوطا متماسكة، حتى وكأن الغار لم يدخله أحد منذ سنوات.
وماحوى الغار من خير ومن كرم
وكل عين من الكفار عنه عمي
فالصدق في الغار والصديق لم يرما
وهم يقولون ما بالغار من أرمي
ظن الحمام وظن العنكبوت على
خير البرية لم تنسج ولم تحمي
وقاية الله أغنت عن مضاعفة
من الدروع وعن عال من الأطم
قال الله تعالى: “هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ”.
صدق الله العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد في ذكرى هجرته المباركة وعلى آله وصحبه وسلم. وكل عام وأنتم بخير، وعام أمن وسلام لكل بني الإنسان.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى