سالم أحمد بامدهف.. سيد درويش عدن.. وصانع الأغنية العدنية

> مختار مقطري

> لم يحظ الفنان العدني الكبير سالم أحمد بامدهف، بما حظي به بعض زملائه من رواد الأغنية العدنية، بالدراسة والبحث والتقدير والتكريم، رغم دوره الكبير والفريد، في صناعة الأغنية العدنية الأصيلة، الخالصة والمخلصة من تأثير ألوان غنائية أخرى، كانت منتشرة في عدن، مثل الحضرمية والأبينية واللحجية والشمالية والمصرية والخليجية والهندية.
كانت الأغنية العدنية مجرد ارهاصات فكرة، قبل تأسيس الندوة العدنية الموسيقية، بزعامة الفنان الكبير الراحل خليل محمد خليل، لكن الفنانين آنذاك، بسبب عدم نضوج الفكرة ثقافياً واجتماعياً وسياسياً لم يسهموا اسهاماً كبيرا وفاعلا في صناعة الأغنية العدنية، فكانت جهودهم قليلة ومبعثرة، ولكن الفكرة كانت موجودة، تؤكدها بعض الأغاني مثل(ريتك تساعدني أنا).
وعندما تأسست الندوة الموسيقية العدنية عام 1949 كانت نتاجاً طبيعياً للتطور المجتمعي العدني، فقد كانت مدينة عدن منفتحة على ثقافات عدة وألوان غنائية كثيرة، وقد اجتمع في الندوة مجموعة من الفنانين أدركوا أن الأغنية انعكاس للهوية الثقافية ولمستوى ما بلغه المجتمع من رقي، فوحدوا جهودهم لخلق أغنية لها سمات المجتمع العدني، فكان لابد أن تكون حديثة، والحق أنهم جميعاً كانوا رواداً في هذا المجال، بزعامة الفنان الكبير خليل محمد خليل، وقدموا جميعا عطاء فنياً خالداً من الأغاني العدنية، ووضعوا الأسس لوجودها وحددوا إطارها العام وبنيتها الفنية، كلا بحسب ثقافته الموسيقية وتأثره بالألوان الغنائية الأخرى غير العدنية، ولكن لم تخلُ ألحانهم من تأثر واضح بتلك الألوان الأخرى، إن كان هذا لا يمنع أن ما قدموه كان هو الأغنية العدنية، وكان المجتمع العدني مجتمعاً سميعاً لكل ألوان الغناء، وكلهم يستحقون التقدير والتكريم والرعاية والاهتمام، لكننا أهملنا من أهملنا، في حين أجد أن زعيم رواد الأغنية العدنية الفنان الكبير خليل محمد خليل استحق وعن جدارة، ما حظي به في حياته، من جوائر وأوسمة وتكريم كبير ورعاية واهتمام.
في حين أن الفنان الكبير سالم أحمد بامدهف لم يحظ، هو وعدد آخر من رواد الأغنية العدنية، بالتكريم الذي يستحقه، وهو حي يرزق، أطال الله في عمره.
فلماذا أميز سالم بامدهف عن غيره من رواد الأغنية العدنية؟ فإني أقولها صراحة، إن سالم بامدهف هو الذي صنع الأغنية العدنية (القُح)، بروحها وأنفاسها ونبضاتها، فلا تشم في ألحانه أي مؤثرات لألوان غنائية أخرى، لا تشم غير رائحة البحر ودفء الشمس وعنفوان الجبل، صنع ألحانه من شجون أهالي عدن وابتساماتهم وعواطفهم، وتبدو بعض ألحانه موشحات عدنية نسجها بامدهف في شارع الزعفران والسوق الطويل بكريتر، وحارة الهاشمي بالشيخ عثمان، وميناء المعلا وحواري التواهي الضيقة، فما إن تسمع الجملة اللحنية الأولى في أغنية لبامدهف أيقنت أنك ستستمع لأغنية عدنية، كما أن كلمات أغانيه من اللهجة العدنية الصميمة، ومعظمها للأديب والشاعر العدني الكبير د. محمد عبده غانم.
ضف إلى ذلك صوته، فصوت بامدهف صوت عدني أصيل بنبراته المنخفضة ونكهته المغسولة بمياه الأمطار العدنية، وعراقة عدن المنقوشة على جدران الخزانات في الصهاريج، ومياه البحر في حقات وصيرة.
لكن من المؤسف أن البامدهف لم يكن له تلاميذ من بعده، ينهجون نهجه ويروجون لفنه، ولاشك أن السبب في ذلك أن فنه العدني الأصيل يحتاج لموهبة كبيرة كموهبته، واستعداد فني وعاطفي وبيئة عدنية متواضعة، وقد توفر له كل ذلك، ولم يتوفر لغيره.
وكان البامدهف عاشقا لمحمد عبدالوهاب، وأظنه لايزال كذلك، ولكني أخاله يتخلص من المؤثرات الموسيقية لما يعشقه من ألحان غيره، وهو يهم بتلحين أغنية، لينفخ فيها الروح العدنية وحدها.
ويذكرني الفنان العدني الكبير سالم أحمد بامدهف بفنان مصر العظيم سيد درويش، مع الفارق في مستوى الثقافة الموسيقية، حيث درس درويش الموسيقى في إيطاليا، ومع الفارق بين ما وصل إليه حال الموسيقى والغناء في القاهرة وعدن، في كلا المرحلتين، مرحلة درويش ومرحلة بامدهف، ففي مطلع القرن الماضي، كانت الساحة الغنائية في القاهرة، مزدهرة بكافة ألوان الغناء والموسيقى الأجنبي، وتحديدا التركي، وكان المسرح الغنائي مزدهرا بفضل سلامة حجازي، ولكنه كان مسرحا غنائيا غربيا، وكانت الأغنية الشعبية القاهرية هزيلة وتافهة كلمات وتلحينا، لكن سيد درويش نجح في صنع الأغنية المصرية الشعبية القاهرية، التي رددها كل الشعب المصري، وذلك من خلال نجاحه في إيجاد المسرح الغنائي المصري، فكانت الأغاني التي يقدمها في المسرحيات، هي الأغنية الشعبية القاهرية، يستلهم ألحانه من الحارة القاهرية الفقيرة وهمهمات أهالي القاهرة البسطاء، في حين لم ينجح أساطين الغناء من قبله، مثل عبده الحامولي وصالح عبده الحي، في صناعة الأغنية المصرية الشعبية القاهرية، تماما كما لم ينجح أساطين الغناء اليمني بعدن، قبل تأسيس الندوة الموسيقية العدنية، في صناعة الأغنية العدنية، وهو ما فعله رواد الأغنية العدنية بعد ذلك، ثم جاء سالم بامدهف ليصنع الأغنية العدنية الخالية من كل المؤثرات الموسيقية للألوان الغنائية الأخرى، مستلهما ألحانه من الحارة العدنية الفقيرة وهمهمات أهالي عدن البسطاء، كما فعل سيد درويش في مصر.
وأنا هنا لا أحاول التقليل من المكانة الفنية العظيمة لرواد الأغنية العدنية، وتحديدا فنانو الندوة الموسيقية العدنية، بقدر ما أتوخى الإنصاف، فكلهم رواد وعمالقة، ولكن أدعو لإعادة قراءة تلك الفترة التي شهدت الأزهار في الموسيقى والغناء بعدن، منذ ما قبل تأسيس الندوة الموسيقية العدنية 1949 إلى مطلع السبعينيات من القرن الماضي على الأقل، دراسة بحثية علمية منصفة، غير عاطفية، آملاً من وزارة الثقافة ومكتبها بعدن إعادة تكريم من لم يحصلوا على التكريم الكبير واللائق الذي يستحقونه، وتحديدا الفنان الكبير سالم أحمد بامدهف، والفارعان ياسين وأبوبكر، من رواد الأغنية العدنية، لأنهم وبحق صناع الحداثة في الغناء اليمني كله، التي توجها وباقتدار وتفوق وامتياز، موسيقار اليمن الكبير أحمد بن أحمد قاسم.
كما أدعوهما لإعداد مشروع مهرجان موسيقي كل عامين، لتقديم أغاني رواد الأغنية العدنية وتلاميذهم من بعدهم، بمصاحبة اوركسترا وتوزيع موسيقي جديد وبأصوات غنائية شابة قادرة على الأداء الجيد، على أن يستضيف المهرجان كبار الفنانين في العالم العربي، مع الترويج الإعلامي للمهرجان عربيا، لأن العطاء الفني لرواد الأغنية العدنية جدير بأن يشرفنا في الوطن العربي كله.
وعليه، تجدر الإشارة إلى ضرورة تشكيل لجنة فنية من كبار فناني ومثقفي عدن، تقوم بحصر وجمع وتوثيق كل أغاني جيل الرواد ومن أتى بعدهم من الفنانين الكبار إلى نهاية السبعينيات من القرن الماضي، لا باعتباره تراثاً، فهو لم يصبح تراثاً بعد، كما يروج بعض ضعاف النفوس من الدخلاء على الفن، ليغدو نهباً لكل من هب ودب، ولكن باعتباره كنزا من كنوز مدينة عدن الساحرة بكنوزها الكثيرة، فهناك أسباب كثيرة تدعونا لجمع وتوثيق هذا العطاء الفني الكبير، منها الخوف عليه من الضياع، وقد بدأ بعضه يضيع، خصوصا وإن إذاعة عدن تتعرض مكتبتها للسرقة، عند نشوب أي صراع مسلح، وهناك تهافت لتأسيس إذاعات خاصة مستقلة، لا تعترف بالحقوق الأدبية، ولا بالحقوق المادية لرواد الأغنية العدنية وفنانينها الكبار، وفي مقدمتهم الفنان العدني الكبير سالم أحمد بامدهف.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى