دروس من الهجرة النبوية المجيدة(2)

> يحيى عبدالله قحطان

>
يحيى عبدالله قحطان
يحيى عبدالله قحطان
قال الله تعالى "الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل* فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ".
لقد كتب الله السلامه لرسولنا سيدنا محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ حتى وصل المدينة المنورة معززا مكرما بحفظ الله ونصره، تحفه جماهير المدينة بالترحاب والأناشيد والابتهالات:
طلع البدر علينا * من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا * مادعا لله داع
أيها المبعوث فينا * جئت بالأمر المطاع
جئت شرفت المدينة * مرحبا باخير داع
أول ما قام به رسولنا الكريم في المدينة عقد مصالحة بين الأوس والخزرج (الأنصار) وإنهاء ما بينهما من فتن وحروب، ثم آخى بين الأنصار والمهاجرين، إخوة تقوم على التراحم والتعاون والتكافل والإيثار.
قال تعالى: "وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ".
كانت المدينة المنورة تسمى (يثرب) فسماها ـ عليه الصلاة والسلام ـ (المدينة المنورة) تحقيقا لقيام أول دولة مدنية حضارية في العالم، تقوم على حرية الاعتقاد والمواطنة المتساوية والتعايش السلمي بين كافة الناس، على اختلاف أجناسهم وألوانهم وأديانهم، اجتمع فيها المسلمون واليهود والنصارى والمجوس وغيرهم، يجمعهم ميثاق موحد ومعاهدة عقدها رسولنا الكريم مع الجميع "لكم دينكم ولنا ديننا، ولكم مالنا وعليكم ما علينا" مواطنة متساوية في الحقوق والواجبات، تقوم على ضمان وكفالة حقوق الإنسان وعلى أساس الاحترام المتبادل، والعدالة الاجتماعية والتعايش السلمي بين الجميع.
قال تعالى: "لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ"، وفي المدينة المنورة وجد رسولنا الكريم اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسأل عن ذلك، قالوا: ذاك يوم نصر الله فيه موسى على فرعون.
قال عليه الصلاة والسلام: نحن أولى بموسى بن عمران منكم، وأمر المسلمين بصيامه.
من يصدق أن رسولنا الكريم كان خادمه يهودي، وهذه جنازة يهودي تمر أمام رسولنا الكريم فيقوم لها، فقيل له إنه يهودي، قال أليست نفس؟ وها هو ـ عليه الصلاة والسلام ـ ينتقل إلى الرفيق الأعلى ودرعه مرهون عند يهودي بثلاثة صاع من شعير، كان بإمكانه ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أن يستدين من أحد المسلمين، ولكنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أراد من ذلك، وهو المشرع، أنه يجوز التعامل في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية مع غير المسلمين، قال تعالى: "الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ۖ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ۖ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ".
وهكذا قام المجتمع المدني والإنساني السلمي والحضاري (الدين لله والوطن للجميع) مجتمع يقوم على روح التسامح والوئام والتعايش السلمي مع كافة أتباع الديانات الأخرى
"وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ"، وقال عليه الصلاة والسلام: "أيها الناس إن ربكم واحد وأباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم".
وقال الله تعالى: "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ" كل الناس على اختلاف أجناسهم وألوانهم وأديانهم.
كان بعض أبناء الأوس والخزرج قد تنصروا وتهودوا قبل إشراق شمس الإسلام، فجاء آبائهم إلى رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقالوا يارسول الله: كيف ندخل الجنة وأبناؤنا كفار يدخلون النار، يجب أن نرغمهم على الدخول في الإسلام، فما هي إلا لحظات وإذا بالوحي ينزل بقوله تعالى: "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ"، ولذلك كانت حرية الاعتقاد هي الحرية الأم في الإسلام.
في السنة الثامنة للهجرة النبوية يقوم ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ مع جند الإسلام بفتح مكة المكرمة بعد أن نقضت قريش الصلح، وها هو رسول الرحمة والسلام بعد الفتح والنصر المبين يعلن العفو العام عن أولئك الذين كذبوه وعادوه وارتكبوا أبشع الجرائم في حقه وصحبه الأبرار، لم يقم المحاكم ليعاقبهم ولم يكرههم على الدخول في الإسلام، ولم يرفع شعار (الإسلام أو الموت.. الإسلام نعمده بالدم) بل أعلن ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن اليوم يوم المرحمة، اليوم تكسى الكعبة، اليوم تعز قريش، من دخل دار أبي سفيان، سيد قريش فهو آمن، ومن دخل بيته فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن، لقد منح رسولنا الكريم قريشا الكافرة الأمان والسلام والمواطنة المتساوية، قائلا: "لا تثريب عليكم اليوم اذهبوا فأنتم الطلقاء" أي أنتم أحرار، عندما رأى هؤلاء القوم سماحة نبي الإسلام دخلوا طواعية في دين الله أفواجا.
والدروس المستفادة من كل ما ذكر إن حرية الاعتقاد هي الحرية الأم في الإسلام (فمن شاء فاليؤمن ومن شاء فاليكفر) وإن الإسلام يجب ما قبله.
كما إن الإسلام لم ينتشر بالسيف ولا بالتكفير والتفجير، وإنما بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، الدعوة إلى الله بالحسنى وبالتي هي أحسن
"ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَ سَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ".
بل إن رسول الرحمة والسلام سيدنا محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ أرشدنا بعدم سب واحتقار أهل الكتاب من اليهود والنصارى، جاء بالحديث الشريف "المسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمسلم ليس سبابا ولا لعانا ولا فاحشا ولا بذيا" قال الله تعالى: "وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" كما نهى الله عز وجل سب أولئك الذين لا يؤمنون بالله في قوله: "وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"، لذلك فإنه يستوجب على سائر دول العالم، وخاصه الدول الغربية الاستعمارية (بريطانيا وفرنسا وأمريكا وروسيا) والتي أيدت وعد بلفور المشؤوم، وزير الخارجية البريطانية عام 1917م بشأن قيام وطن قومي لليهود في فلسطين العربية على هذه الدول الالتزام بالتعايش السلمي مع سائر الأمم، والالتزام بحوار الحضارات، لا بصراع الحضارات، وإرغام إسرائيل بالانسحاب فورا من فلسطين بقدسها الشريف ومسجدها الأقصى المبارك حتى يتم ترسيخ الأمن والسلم الدوليين، والتعايش السلمي بين سائر الشعوب على اختلاف أديانهم وأجناسهم وألوانهم، كما كان عليه المجتمع النموذجي الإنساني السلمي في المدينة المنورة، بقيادة رسول الرحمة والسلام للبشرية جمعاء سيدنا محمد، صلوات الله وسلامه عليه "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ".
ونظرا لكل ما ذكر يضع السؤال نفسه بأي حق يقوم الصهاينة وحلفاؤهم بتشويه ديننا الإسلامي الحنيف واتهامه (بالإرهاب الإسلامي) وإذا ما كان هناك سلوك خاطئ من قبل بعض الفئات المتشددة، المزروعة عنوة بين صفوفنا من قبل أعداء الإسلام فإن ذلك السلوك الشاذ لا يمثل الإسلام إطلاقا فالإسلام حجة علينا، ولسنا حجة على الإسلام.
وبعد ونحن نحتفل بالعام الهجري الجديد فعلينا أن نجعل من هذه الذكرى المجيدة حافزا لنا على المضي قدما بالعودة إلى إسلامنا، إلى كتاب الله العظيم وسنة رسولنا الكريم، وأن ترتفع أمتنا الإسلامية حكاما ومحكومين وعلماء ودعاة ومرشدين إلى مستوى المسؤلية وأخذ الدروس من مسيرة الهجرة النبوية المجيدة، والعمل على تصحيح مسارنا وتغيير ما بأنفسنا من اعوجاج وانحراف عن المنهج الإسلامي الحنيف، القائم على الوسطية والاعتدال والسماحة والوئام والعدل والأمان والحرية والسلام مع سائر الأمم والأديان "لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا".
وأيم الله إننا إذا سرنا وفق صراط الله المستقيم وسنة نبينا الكريم وسيرة خلفائه الراشدين، فلن تغيب شمسنا، ولن يأفل نجمنا، ولن يقوض أمننا، ولن تسفك دماؤنا، ولن يهتز اقتصادنا ولن يشرد أهلنا في أنحاء الأرض، ولن تحتل بلادنا ولن تهود قدسنا الشريف بمسجدها الأقصى المبارك، حقا إذا التزمنا بما ذكر لتغير ميزان القوى لصالح أمتنا، وأعيد لها كرامتها وعزتها وحريتها وأمنها وازدهارها، قال الله تعالى: "هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ* وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ".
صدق الله العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد في ذكرى هجرته المباركة وعلى آله وصحبه وسلم، وكل عام وأنتم بخير، وعام آمن وسلام لكل بني الإنسان.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى