ذات عدن.. ذات زمن 14

> محمد عمر بحاح

>
محمد عمر بحاح
محمد عمر بحاح
في الأول من يناير 1960م أصدرت امرأة عدنية اسمها ماهية نجيب العدد الاول من مجلة (فتاة شمسان) من كريتر بالذات وليس من أي مكان اخر .
فكانت اول مجلة تعنى بشؤون المرأة ليس في عدن وحدها، بل في اليمن والخليج والجزيرة والمغرب العربي. كانت تلك جراءة غير مسبوقة، وطموحا لا حدود له.
هذه قصة كفاح اخرى لامرأة عدنية تستحق أن تروى بعد قصة كفاح الرائدة التربوية الأولى السيدة نور حيدر.
عدن تزخر بالمطابع، الصحف، المجلات، لكن ليس من بينها واحدة تهتم بشؤون المرأة والأسرة العدنية .. هذا وحده كاف لأن يفكر احد ما باصدار مجلة من هذا النوع، لكن احدا لم يفعل غير ماهية نجيب!
السنة التي صدرت فيها (فتاة شمسان) هي التي دخلت فيها عدن لأول مرة .. كل حارة، شارع، بيت له هنا حكاية. الصدفة لم تصنع ماهية نجيب، هي جزء من التاريخ الحديث لهذه المدينة.
جزء لايتجزأ من نهوضها ودخولها العصر. ومن المجريات السياسية التي كانت تتفاعل في عدن، بحيث لا يمكننا، عند الحديث عن المرأة العدنية في تلك الحقبة التاريخية، إلا أن نبحث عن المرأة في خضم تلك التفاعلات التي صاغت لنا شخصيات كثيرة لا يمكن أن نعزلها عن السياق التاريخي العام، كما تقول الدكتورة اسمهان العلس استاذ التاريخ الحديث والمعاصرفي جامعة عدن، بما يمكننا ان نقول - والكلام للدكتورة العلس: إن هذه الاحداث التاريخية المهمة كانت مدرسة سياسية سيست المرأة العدنية قبل أن تسيسها أحزابها.
في 21 نًوفمبر 1926 في مدينة التواهي، حيث البحر، الميناء، والبواخر والسفن الشراعية، ووشوشة الريح، وطيور النورس، وحيث تختلط الاجناس القادمة من بحار العالم، وحيث التجارة، والتقدم العمراني. ستولد الطفلة التي ستصبح فيما بعد رائدة الصحافة في عدن واليمن وكل الجزيرة في بيت من بيوت تاجر من تجار عدن المشهورين، لأم ربة بيت هي الحاجة سعيدة محمد ناصر، لكنها في نفس الوقت هي ابنة تاجر كبير وأحد أعيان مدينة التواهي، ولأب هومحمد عمر الشيبة (جرجرة) وهو اسم شهرته.
عرف عن الطفلة ماهية، وهي الثالثة في ترتيب اخوانها الاربعة عشر بالتساوي في عدد الاناث والذكور، النبوغ المبكر، الذكاء، حب الموسيقى، القراءة، الرسم، وسرعة الحفظ حتى انها حفظت سبعة أجزاء من القرآن الكريم ولم تبلغ السادسة من عمرها بعد في كتاب (معلامة) الفقيهة صالحة.
تقول الاعلامية والزميلة نادرة عبدالقدوس التي وثقت لقصة الرائدة الصحافية الاولى في الكتاب الذي أصدرته عنها: (ماهية نجيب ... الريادة) والذي استقيت منه هذه المعلومات إن اخاها عبد الرحمن جرجرة، السياسي العدني المعروف والذي اصبح فيمابعد وزيرا للمعارف في الستيينيات من القرن الماضي كأول عدني يحتل هذا المنصب الرفيع، هو الذي علم اخته ماهية مباديء وقواعد اللغة العربية ونحوها وكل ماكان يأخذه من دروس في مدرسته الابتدائية، وحينها لم تكن هناك مدارس لتعليم البنات، فوق أن الاسرة التي قدم كبيرها من البيضاء، كانت محافظة وعرف عنها تمسكها بالتقاليد الاجتماعية والقيم الدينية المتوارثة فيها كما هو حال جميع اهل عدن.
غذى شقيقها في شقيقته المعرفة والاطلاع فكان يزودها بالكتب والصحف والنشرات بعد ان كبرت والتي كانت تصدر في عدن .. وعرف عن ماهية منذ كانت طفلة سرعة البديهة وقوة الملاحظة.
(2)
نجيب احمد علي سعد، ينتمي الى أسرة ميسورة الحال من سكان مدينة التواهي، وكان والده يعمل في شركة فحم في الميناء تدعى (كول برادرز) تزود السفن بالفحم الحجري، رئيسا للعمال. وقد تقدم نجيب لخطبة ماهية الذي يرتبط معها بصلة قرابة عن طريق أمها (ابن خال) بالكاد كان عمرها خمسة عشرة سنة والعريس 18 سنة.
في ذلك الزمن 1940 لم تكن الزيجات من هذا النوع غريبة، وقد حظي الزواج بموافقة الأهل، تقدم عريس وطلب يدها للزواج في بيت فيه سبع بنات يعد فرصة للتخلص من واحدة، وتسليم مسؤوليتها الى رجل، خاصة اذا كان من الاهل وميسورا، وفي مجتمع كان ينظر للمرأة نظرة قاصرة، ويحصر وظيفتها بالزواج والانجاب وتربية الاولاد فقط.. عندما انجبت ماهية طفلها السادس كانت في الثامنة والعشرين فقط، وفي نفس العام 1954 فجعت بموت زوجها الذي حملت اسمه في حادث مروري مفجع وهو في طريق عودته من لحج التي لا تبعد عن عدن سوى نحو عشرين كيلو مترا . نزل الخبر عليها كالصاعقة. اذ فقدت الزوج ورفيق الدرب، واب اولادها الذين تفرغت لتربيتهم رافضة كل فكرة للزواج من بعده رغم تقدم الكثيرين.
(3)
الرسم، الموسيقى، العزف على البيانو الذي تعلمته في مدرسة القديس سانت جوزيف في التواهي، بتشجيع من زوجها قبل وفاته، حاولت الأرملة الشابة أن تتغلب على حزنها، وبالقراءة والاطلاع والكتابة في صحيفة (النهضة) التي كان يملكها ويرأس تحريرها شقيقها الأكبر عبدالرحمن جرجرة سندها منذ الطفولة، وبتعلم اللغة الانجليزية على يده. بالاضافة طبعا الى تربية اولادها: نجوى، سهام، احمد، عائدة، ناهد، ومحمد، تنشئة هذا العدد من الاطفال في وقت واحد على أرملة شابة ليس بالأمر السهل.
لكن ماهية نجيب كانت امرأة من طراز نادر، كان القدر يعدها لدور أكبر من مجرد تربية أولادها، وإن كان هذا واحدا من أعظم أدوار المرأة في الحياة.
(4)
علي امان الشاعر والصحافي ورئيس تحرير مجلة (أنغام) وصاحب أول مجلة فنية في عدن واليمن والجزيرة، يوم كانت عدن هي الأولى في كل شيء، يذكر في شهادته عن كيفية ميلاد (فتاة شمسان) بعد صدور (أنغام) بفترة من الزمن، يقول: في جلسة عائلية جمعتني بماهية نجيب وشقيقها قال عبد الرحمن جرجرة: يالله ياماهية تحمسي لاصدار مجلة نسائية، اسوة بأنغام الفنية. ماهية ابتسمت ولم تعلق، لكنها استحسنت الفكرة، هنا كانت بداية ظهور فكرة (فتاة شمسان) وبعد هذا اللقاء بشهر ظهرت المجلة الى الوجود عام 1960.
لكن الفكرة كانت قد نوقشت قبل هذا اللقاء بالتأكيد بين الشقيق وشقيقته، وصهرهما حامد لقمان بدليل أن ترخيص الصحيفة استغرق نحو عام كامل، بينما يقول علي أمان إنها صدرت بعد أشهر من اللقاء.
تحملت ماهية مسؤولية الادارة ورئاسة تحرير المجلة بجدارة، مستندة الى الخبرة التي اكتسبتها في الاشراف على صفحة المرأة في صحيفة شقيقها (النهضة) والكتابة فيها بالاضافة الى ما امتلكته من وعي وثقافة مكتسبة من قراءاتها للكتب والصحف وما أمدته بها الحياة من خبرة وتجارب. مشت وسط أجواء عاصفة، بين قلة مؤيدة، وأغلبية معارضة، أولهم والدها. كانت معارضته كما تقول مؤلفة الكتاب نابعة من خوف على ابنته من نظرة المجتمع الذي لن يتقبل فكرة أن تمتلك امرأة مجلة، وتخالط الرجال، وهو ما لم تسبق اليه امرأة في عدن .. اعداد محدودة كن يكتبن في الصحف ولكن بأسماء مستعارة، وكانت رضية احسان الله من اوائل من كتبت في الصحف .. ماهية نفسها كانت تكتب تحت اسم مستعار (بنت البلد) عندما كانت تحرر صفحة المرأة في جريدة النهضة. الان الأمر كان مختلفا فهي صاحبة الامتياز ورئيس التحرير لمجلة تختص بشؤون المرأة والأسرة واسمها سيكتب بالبنط العريض ولايمكنها التواري تحت اسماء مستعارة. وماتوقعه الأب الحريص على ابنته حدث.. اقوى معارضة جاءت من رجال الدين، ومثلما عارضوا تعليم الفتاة، عارضوا أيضا عمل المرأة، تحت مبرر مخالطة الرجال، وأن مكان المرأة هو البيت وتربية الاولاد لاغير..
إمام جامع العيدروس حينها الشيخ محمد سالم باحميش شن حملة شعواء على ماهية نجيب الى حد اتهامها بالكفر والالحاد، وفي احدى خطبه وجه لوما للحكومة لمنحها تصريحا لامرأة لاصدار مجلة نسائية، وقال إنه من العيب أن تجهر المرأة برأيها في الحب والموسيقى والمساواة بين الجنسين. والغريب ان حالهم لم يتغير كثيرا منذ ذلك الوقت!!!!
(5)
في الطرف الآخر، هناك من وقف مع السيدة ماهية نجيب من المثقفين ورجال الصحافة، على رأسهم بالاضافة الى شقيقها الاستاذ محمد علي باشراحيل، رئيس تحرير وصاحب صحيفة «الأيام» الشهيرة في عدن الذي كتب في فتاة شمسان في العدد الاول من سنتها الرابعة 1ابريل 1963، مشيدا بدورها في الاهتمام بقضايا المرأة التي لم تكن تلقى اهتماما من الصحافة المحلية واصفا ذلك بالتقصير الفاضح تجاه المرأة وقضاياها. وعن اصدارها لأول مجلة نسائية في هذا الجزء من الوطن العربي يقول ليس اقدر على انصاف عملها من التاريخ وحده.
ويصف السيدة ماهية بأنها رائدة تحرر المرأة وقائدته دونما شك. منذ الأعداد الأولى أفردت الصحيفة صدرها لقضايا المرأة، وممن كتبوا حول ذلك ابرز كتاب عدن حينها:احمد شريف الرفاعي، حمزة لقمان، محمد علي لقمان، علي عوض بامطرف، ومحمد علي باشراحيل، وطه أمان الذي تولى تحرير صفحة الفنون الجميلة واعطاها نكهة خاصة. لقد غدت فتاة شمسان اضافة جديدة الى الصحافة العدنية وحقيقة من حقائق الواقع الحديث الذي يتشكل في عدن، وتضع اسئلة ومواضيع شائكة لم تكن تطرح من قبل ويتم تجاهلها كل التجاهل. خاصة ما يتعلق بحقوق المرأة السياسية.
(6)
حق المرأة في التعليم، العمل، الترشح لانتخابات المجلس التشريعي، وغيرها من القضايا التي تهم النساء في عدن كان من بين أبرز القضايا التي اهتمت بها فتاة شمسان وصاحبتها ماهية نجيب.
كانت ترى مستقبل المرأة العدنية بعينيها، فدعمت تعليم الفتيات، وعمل النساء، وكانت ترى في ذلك الخطوة الصحيحة في تحرر المرأة وانطلاقتها نحو المستقبل، ودعتها الى عدم الاقتصار على التدريس والتمريض فقط، بل طرق آفاق عمل اخرى، وقالت إن المرأة تستحق ان تكون وزيرة أيضا! ومن يدري فالمستقبل سوف يكشف لنا الكثير عن قدرات ومواهب المرأة العدنية العربية.
شأنها شأن الرواد في الوطن العربي، كانت ترى ان التعليم بالنسبة للفتاة كما هو للولد، هو الذي سيدفع المجتع قدما، وهو الذي سيضع في يد البنت سلاحا تواجه به الحياة، وتنال به حقوقها المسلوبة، بما في ذلك حقها في التعليم، والعمل، واختيار شريك الحياة، والمشاركة السياسية.
وكانت تستمد من النماذج الماثلة في بعض أقطار الوطن العربي التي حققت فيها المرأة مستوى من التطور اسوة وقدوة كمصر وسورية ولبنان والعراق وفلسطين وشرق الاردن.
(7)
قصة كفاح ماهية نجيب ماهي إلا سرد حكائي مؤلم.. نجاحها وسط خضم من التعقيدات والصعوبات كرائدة للصحافة من ناحية، يقابله ألم، ومرارة، حزن، ووحدة، لقد عانت كثيرا، وسارت على درب من الأشواك والمخاطر.. وتعرضت لعددمن الهزات التي يصفها الإعلامي والكاتب نجيب محمد يابلي بالزلزالية: الأولى سنة 1954 وكانت في الثامنة والعشرين من عمرها عندما مات شريك حياتها، الثانية في عام 1968 عندما اعلن الحكم الشمولي صحافة الصوت الواحد، وكانت الثالثة والقاضية عام 1982 عند وفاتها كمدا... والرابعة اضطرارها لمغادرة وطنها ومسقط رأسها، وموطن كفاحها، عدن في عام 1972 الى تعز ومن ثم الى السعودية، حيث ماتت بالسرطان الذي داهمها فجأة، وهي في الـ 56 من عمرها، في 28 يوليو 1982.
ليسدل الستار على حياة امرأة عظيمة كان العنوان الأكبر فيها الكفاح في البداية، ومصارعة السرطان في النهاية.
ومن كانت له كل هذه الطاقة على التحمل فليسم نفسه مناضلا، أو فليتنح جانبا ،لأن ماهية نجيب وغيرها من نساء عدن جديرات به، وبالخلود.
وللحديث بقية ...

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى