تحليل اقتصادي حول قرار تعويم الريال.. غياب محافظ البنك ونائبه طيلة فترة الإرباك والقصور يستحيل أن يكون له ما يبرره

> د.محمد عمر باناجه

> بعد استعادة الشرعية لبعض مؤسساتها في عدد من المحافظات اليمنية أضحت المعركة الحقيقية لها في الجبهة الاقتصادية. فمنذ عام ونيف سعت وما فتئت الحكومة تسعى نحو تطبيع الحياة بغية استرداد عافية الاقتصاد، بيد أن وتيرة عملها في هذا المضمار ظلت تتأخر من حيث السرعة عن وتيرة التطبيع الذي تجسد من لدن المجتمع برغبة جامحة.
د.محمد عمر باناجه
د.محمد عمر باناجه

الأمر الذي تسبب في خلق فجوة - إن لم تكن فجوات - في إنجاز المهام المطلوبة وفق أولوياتها وما ترتب عن ذلك من إرباك وضعف في الأداء على أكثر من صعيد في الشأن الاقتصادي. وكان من أبرز تجليات ذلك الضعف وضوحا الأداء في الجانب النقدي وتغييب استخدام السياسات النقدية المعاضدة لمعافاة الاقتصاد، مما تسبب في زيادة معاناته وليس معافاته.
يمكن أن يتفهم المرء صعوبة المرحلة لاسيما مع تعدد وتنوع مهام الحكومة الذي يتواجد رئيسها في العاصمة المؤقتة، بيد أن غياب محافظ البنك المركزي ونائبه - المعنيين بإدارة السياسة النقدية - طيلة الفترة الماضية يستحيل أن يكون له ما يبرره، في الوقت الذي تشهد جبهة عملهما إرباكا وقصورا في الأداء لم يحصل له مثيل في التاريخ النقدي لليمن.
كنا فيما مضى قد نبهنا إلى ضرورة اتخاذ اجراءات حازمة وسريعة تجاه تهاوي سعر صرف الريال لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل ان تحدث الكارثة، كما نبهنا إلى خطورة الاستمرار في استخدام اسلوب توفير السيولة عن طريق الاصدار النقدي غير المغطى بأصول خارجية للبنك المركزي ولا بإنتاج من السلع والخدمات، لما يولده هذا الاسلوب من ضغوط تضخميه، وأشرنا في مقالات إلى ضرورة البدء بوضع ميزانية عمومية للبنك المركزي وموازنة عامة للحكومة (ولو افتراضيتين)، كون اﻷولى تعد بوصلة في السير بالسياسة النقدية إلى بر الأمان لما تحتويه الميزانية من أصول وخصوم تعبر عن النقود الاساسية (القاعدة النقدية) التي تقف وراء التغيرات التي تطرأ في عرض النقود، الأمر الذي يعطي لمجلس إدارة البنك المقدرة في الرقابة والتحكم بعرض النقود.
لكن - مع الأسف - لم يحدث شيئا مما كان ينبغي أن يحدث في حينه لفرملة سرعة التغيرات التي كانت تحدث لسعر الصرف وكأن الامر لايعني مجلس ادارة البنك المركزي.
عندما اشتدت الوطأة على سعر الصرف تداعى أعضاء مجلس إدارة البنك المركزي لعقد اجتماعهم التاريخي في مدينة عمان بالأردن، ليس لمناقشة رؤية متكاملة تحتوي على حزمة من الإجراءات النقدية وغير النقدية الكفيله بإنقاذ وضع الريال، بل للإفصاح عن موقف محافظ البنك في سياسة إدارة سعر الصرف على وفق نظام الصرف المعوم الحر، كما ورد - ضمناً - في خطابه الموجه الى مدراء البنوك التجارية. الأمر الذي خلق حاله من الهلع لدى المتعاملين في سوق الصرف والخوف من مآلات سعر صرف الريال ورفع من مستويات المضاربة في السوق التي دفعت بسعر الصرف إلى الأعلى حتى وصل في أيام معدودات إلى 404 ريال/ دولار.
وعندما انتقدنا هذا التغير في سياسة إدارة الصرف في هذا الظرف غير المواتي كان هناك من يصر على أن سياسة إدارة الصرف لم تتغير وأن قرار التعويم قديم واتخذ في عام 1996 ضمن مصفوفة اصلاحات السياسة النقدية في سياق تنفيذ برنامج التثبيت والتكييف الهيكلي.
بيد أن ما أفصح عنه محافظ البنك المركزي ضمنا في رسالته الموجهة إلى مدراء البنوك التجارية قصد به التعويم الحر وليس التعويم المرن (المدار)، بدلالة إلغاء سعر الصرف التأشيري الذي يحدده عادة البنك المركزي كمؤشر لسياسته النقدية.
لن أخوض في سرد الحجج والأسانيد التي تؤكد ما ذهبت إلى قوله، لأن ذلك ليس هدفي من هذا الموضوع ولأن اللحظة الحرجة جدا التي نعيشها إثر الارتفاعات المهولة والمتسارعة لسعر صرف الريال أمام العملات الاجنبيه تتطلب منا البحث في معالجة الوضع سريعا وسريعا جدا قبل أن يطال الانهيار كل المناشط الاقتصادية التي ما من شك سوف ينعكس على الحياة المعيشية للمواطنين جراء انخفاض دخولهم الحقيقية.
في هذا الإطار أضع أمام أصحاب القرار رؤية تتضمن مصفوفة من اﻹجراءات تتخذ على حزم متتالية، تهدف أولا وقبل كل شيء، إلى فرملة انهيار سعر الصرف والحد من ارتفاع معدلات التضخم بغية تهيئة وتأمين شروط معافاة الاقتصاد لاحقا، ومن ثم النهوض به.
*مفردات الرؤية:
أولا : حزمة الإجراءات الفورية:
1- الإعلان رسميا عن إعادة النظر بنظام سعر الصرف من التعويم الحر إلى التعويم المدار أو أي نظام مرن آخر، وذلك بهدف إعادة تهدئة السوق وخلق الطمأنينة لدى الأطراف المتعاملة بالنقد الاجنبي بيعا وشراءً.
2 - اختيار سعر صرف يعتمده البنك المركزي كسعر صرف تأشيري (رسمي) يستخدمه مؤشرا لأغراض السياسة النقدية ولأغراض التسعير الجمركي. وأن يتجاوز سعر الصرف التأشيري (المركزي) السابق الذي حدد بـ250 ريال/دولار إلى 300 ريال/دولار، ويكون خاضعا للتعديل الدوري كلما تطلب الأمر.
3 - تفعيل قانون الصرافة وإغلاق كافة محلات شركات الصرافة التي أنشئت في عام 2015 وما تلاه، وتلك التي كانت تمارس مهامها قبل ذلك العام بدون ترخيص من قبل البنك المركزي.
4 - تشديد الرقابة على المتعاملين بالشراء للنقد الأجنبي من غير ترخيص واتخاذ العقوبات الفورية القانونية بالمخلين.
5 - قيام البنك المركزي بانتداب موظف مختص من قبله إلى كل محل صرافة مرخص له. وذلك بغرض تجميع بيانات حول حركة البيع والشراء للنقد الأجنبي ورصد مسارب البيع بالجملة ولأي أغراض.
وذلك في سياق أدائه لوظيفته في منع غسيل الأموال، وفي إطار ما يسمح به القانون.
6 - تقنين عملية خروج النقد الاجنبي لأغراض ادخارها في الخارج وتحديد السقف الاعلى للمبالغ التي يمكن اخراجها من البلاد.
7- تقييد عمليات الاستيراد للسلع والخدمات، ومنع استيراد السلع الكمالية التي تتسم بارتفاع كلفها وتدني منفعتها.
ثانيا: حزمة الإجراءات الآتية:
ما إن ينتهي مجلس إدارة البنك المركزي من اتخاذ حزمة الإجراءات الفورية التي ستعمل على تهدئة سوق الصرف واستعادة ثقة الناس بالبنك المركزي التي ستساعد على إحياء التوقعات الرشيدة لديهم تجاه متغيرات السوق، يتم حينها البدء باتخاذ حزمة من الإجراءات المعاضدة التي تدعم هدف استقرار أسعار السلع والخدمات واستقرار سعر صرف الريال أمام العملات الأجنبيه. ومن بين إجراءات الحزمة الثانية ما يلي:
1 - تحريك سعر الفائدة بما يخدم تشجيع الإيداع في البنوك وجذب الاموال المكتنزة في البيوت كأوراق نقدية سائلة كي تنتظم الدورة النقدية وتتلاشى تدريجيا أزمة شحة السيولة.
كما أن رفع معدلات الفائدة على الودائع ستحد من رغبة المدخرين - أفرادا كانوا أم شركات - في تحويل مدخراتهم من الريال إلى الدولار، لأن سعر الفائدة الحقيقي على الودائع سيعوضهم عن الخسائر التي يمكن أن تحدث في القيمة الحقيقية لمدخراتهم نتيجة لمعدلات التضخم.
ناهيك عن الدور الذي يمكن أن تلعبه الأموال المودعة في البنوك كموارد مجتمعية متاحة للإقراض من قبل البنوك وتمكينها من استعادة نشاطها الإئتماني الذي سيسهم في خلق ما يعرف بـ(نقود الودائع) وزيادة عرض النقود دون ضخ إصدارات جديدة من قبل البنك المركزي.
2 - تكثيف الجهد الدبلوماسي والتفاوضي بغرض توفير منحة من دول التحالف توضع في حساب الأصول الخارجية للبنك المركزي باعتبارها خط الدفاع الأول لقيمة العملة المحلية.
كما يمكن التفاوض مع صندوق النقد الدولي لطلب قرض بشروط ميسرة لذات الغرض.
3 - تركيز الجهود نحو اعتماد الأموال اللازمة لتنفيذ خطة التعافي وإعادة الاعمار التي وضعها خبراء البنك الدولي وتضمنت في أولويتها الثانية الدعم المالي للموازنة العامة للدولة، وتخصيص المبالغ اللازمة لدفع المرتبات المتخلفة، ورفد الأصول الخارجيه للبنك المركزي بالنقد الأجنبي بما يمكنه من تأدية وظائفه. وهذا الجهد سيوفر حوالي 7,4 مليار دولار في السنة الأولى من خطة التعافي، وإعادة الاعمار منها 4,8 مليار لسد فجوة تمويل احتياجات الموازنة العامة و 2,6 مليار دولار لسد العجز الخارجي في الأصول الخارجية للبنك المركزي.
5 -إعداد ميزانية عمومية للبنك المركزي يستطيع من خلالها مجلس إدارة البنك التحكم بعرض النقود ومناسيب السيولة بغية السيطرة على التضخم.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى