أحمد قاسم.. العبقري العدني الذي تحدى المستحيل بموسيقاه

> عبد اللطيف سالمين

>
عبد اللطيف سالمين
عبد اللطيف سالمين
كتب يوما، الشاعر الكبير لطفي جعفر أمان، كلماته المشهورة:(أنا بانساه وبنسى هواه)، فحلق بها الموسيقار أحمد قاسم، بلحنه البديع وبحنجرته الذهبية، وحلقت معه أجيال تلو أجيال، وتمر الأيام والشهور وتتعاقب السنين، وما زال صدى اللحن والكلمات يحلق في سماء اليمن، وعلى عكس تلك الكلمات، لم ننسه ولم ننس هواه، وصدى قيثارة الوطن العربي، والعبقرية التي غيرت ملامح الألحان اليمنية، لتستحق الوقوف أمامها، وكشف بعض خباياها، والبحث عما يثري من أراد السير حذوها.
هي ملحمة فنية حقيقية لأحد رواد الغناء اليمني، ومجدديه، أسعد الألوف والملايين بموسيقاه الخالدة، التي تعدى صداها ليشمل كافة أنحاء الوطن العربي.
لم تكن تلك الشهرة التي حققها وليدة الصدفة، فقد نشأ الموسيقار اليمني الكبير أحمد بن أحمد قاسم، في بيئة فنية تعشق الموسيقى والطرب، ومند الرضعة الأولى تعشقَ الفن، واستنشق هواء الطرب، وحمل الفن في كف وفي الأخرى أصابع سحرية صاغت العود من (مجلس) خشبي يجلس فيه رب العائلة لتناول الغذاء، فرأى فيه ضالته حين قام بتثبيت الأوتار الخاصة بالصيد على مسامير في آخر المجلس، ليدغدغ الأوتار بريشة من جناح طائر الحمام، ويصنع أداته الخاصة للعزف، كل ذلك وهو في العام الخامس من عمره، وتشربت ثناياه ألحان رواد وكبار ملحتي ومطربي الجنوب والوطن العربي، مند الصغر. نشأ مع أخوة يجيدون العزف على مختلف الآلات الموسيقية كالكمان، والدربوجه، بجانب العود.
مرت سنين الطفولة في جو تسوده الأجواء الفنية، حتى كبر والتحق بدراسة الموسيقى على أصولها، كان ذلك حين التحق بالفرفة الموسيقية لمدرسة بازرعة في مدينة كريتر بعدن، ليتلقى دروسا في عزف العود على يد الفنان القدير يحبى مكي، والذي شهد له ولموهبته الفذة وأولاه أنواعا من العناية والتدريب.
ولم تدم تلك التجربة طويلاً، ليلتحق موسيقارنا بركب الميدان الغنائي، ليبهر الجميع حينذاك، ويصادف وجود الفنان المصري الراحل فريد الأطرش بعدن 1956 فيوصي به، وبضرورة الاهتمام بهكذا موهبة فنية حقيقية، الأمر الذي نال استحسان الحكومة، ليتم إرساله للدراسة في الخارج عبر منحة دراسية حكومية بمدينة القاهرة تحديدا، في المعهد العالي للموسيقى، ليسطر قصة طموح فني يحتدى بها.
ابتدت فصولها في نيله درجة الامتياز على مستوى الطلبة، والتخرج بشهادة الدبلوم، وتتويج جهده الفني بالجوائز العديدة التي تبرز تفوقه الفني على أقرانه في مصر.
لم تمر السنين طويلاً حتى عاد ركبه ليشارك ما تعلمه مع الدارسين الجدد للموسيقى، في ثغر اليمن الباسم عدن. قضى فيها عامين يعلم الجميع الموسيقى في المدارس الحكومية، وشارك في تأسيس معهد (جميل غانم) للموسيقى، ولأن الروح الحقيقية لا يرويها الفن أبدا، ولإثراء مخزونه الفني، اشتد به الجوع للتعلم أكثر واشتاقت حواسه لللسفر، هذه المرة إلى أمريكا، كما كان يرغب، وهذا ما لم يتحقق رغم كل الجهود المبذولة لتحقيق ذلك، ولكن جهده لم يذهب في مهب الريح، لتهب به نحو رحلة جديدة نسجت فصولها في أوروبا، تعلم خلالها كل الفنون الموسيقية، ليزود جعبته بالثراء الفني، ما انعكس بعد ذلك على قيثارة الوطن العربي في فصول أخرى شجية تطرب لها الآذان وتأسر القلوب.
كانت حياته الشخصية مليئة بالمواقف القاسية والتحديات الصعبة، نلمح شذراتها سريعاً لنستخرج عصارة تلك السنين التي صقلت عبقرية فنية فذة نادراً ما تتكرر.
ولٱن مُتع الفن لا تأتي فرادى، لم يفوت الفرصة لخوض غمار تجربة فنية شيقة، كان ذلك عبر تجربة الانتاج لٱول فيلم سينمائي مصري- يمني،( حبي في القاهرة) الذي تم انتاجه في ستينيات القرن الماضي مع كوكبة من كبار ممثلي مصر في تلك الحقبة الفنية، زبزي البدراوي، محمود المليجي، زوزو ماضي، توفيق الدقن عبدالمنعم ابراهيم وغيرهم، الذي جسد به شخصية انسانية طموحة، يسطع نجمها رغم كل المعاناة.
وبعد حياة قاسية عاشها في القاهرة، عانى فيها من انتقادات قاسية واتهامات باطلة، وبعد سنين مليئة بالجهد والدموع، قدم بها كل شيء لإنتاج الفيلم، حتى وصل به الأمر لبيع مقتنياته الشخصية، في سبيل تحقيق احدى احلامه الفنية، ورغم ان الفيلم لم يلق نجاحا واسعاً، لم يُصب بالإحباط. وقرر شد الرحال نحو عدن، دون ارسال اي برقية لٱهله يخبرهم بذلك، لافتقاده المادة التي افناها في تجربته السينمائية، ولكن خافقه امتلٱ رضا وسعادة للعودة مرة اخرى لاحتضان مدينة عدن.
وهو ما برز جلياّ فيما بعد، حين قام باستقطاب العديد من فناني مصر لمشاركته امتع السهرات الغنائية الفنية.
ومن تم عاد ليسطر اروع الٱلحان الغنائية العاطفية والوطنية كٱوبريت(يا مزهري الحزين)، وتغنى بالوحدة اليمنية مع الفنانة امل كعدل، وسطر مع لطفي سينفونية بمجموعة من الاغاني منها (ياساحل ابين بنى العشاق فيك معبد)،
ورغم تلك الاتهامات الكثيرة التي وجهت له بتاثره بالموسيقى المصرية في اعماله، كان رده جلياّ في العديد من الاعمال الغنائية اليمنية الاصيلة، التي تبرز ذائقته اليمنية التي لا تشوهها الحداثه، مثل اغنية(يا حلو ياخضر اللون) للشاعر عبده عثمان
واغنية (يا ليت عدن مسير يوم) للشاعر احمد الجابري
(قمري تغني على الأغصان) للشاعر محمد عبده غانم و( في جفونك) و(اسمر وعيونه) والعديد من الاغاني مثل (يا غارة الله) و(حقول البن) (من العدين يالله) و(يا طالعين الجبل).
ولم ينس كذلك اللون العدني الذي قدمه كوجبه فنية شهية، برزت في اغنيته الشهيرة:(ياعيباه)، ولانه لا يعرف المستحيل، فمن منا لا يتذكر اغنية (مستحيل) الذي احبها الجميع.
كل ما ذكر هو شذرات قليلة من قصة طموح كبيرة، تحتاج لكتاب كامل، يسرد محطات مسيرة موسيقارنا العبقري ودوره في إثراء الفن اليمني الغنائي.
ونحن هنا في محاولة للعودة بالزمن قليلا نحو ذائقة فنية لم تمت بموت صاحبها، وستظل خالدة خلود الفن والٱمم والحضارة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى