ذات عدن.. ذات زمن (18)

> أ. محمد عمر بحاح

> (1)
كأن عدن كانت تنتظر هذه اللحظة. لا، بل هي من صنعت هذه اللحظة.. لا يمكن فصل ميلاد الأغنية العدنية على يد الرائدين الشاعر محمد عبده غانم والفنان الملحن والمطرب خليل محمد خليل عن ظرفها التاريخي الزمكاني الذي تخلقت فيه.
أ. محمد عمر بحاح
أ. محمد عمر بحاح

فهي ابنة لمدينة عدن من حيث المكان.. وهي ابنة لها من حيث الزمان.. ابنة نهايات النصف الأول من القرن العشرين وبدايات نصفه الثاني، بتطوراته السريعة، التجديدية على كافة الأصعدة. في العلوم، والشعر، والموسيقى، والفنون في العالم.
وهو الزمن الذي حققت فيه عدن، مكانة عالمية مرموقة كواحدة من أهم وأشهر الموانئ، بل وتحتل المراتب الأولى.. وتستقطب إليها الاهتمام والوافدين من الجوار ومن مختلف أنحاء العالم. وهونفس الزمن الذي وصلت فيه إلى مكانة مرموقة كمنطقة تجارة حرة، بل من بين أقدمها. وشهدت فيه انطلاقة في التعليم، والثقافة، والصحافة، والإدارة، والحياة المدنية، مع تعدد ديني وثقافي، وتعايش إنساني بين جميع سكانها من مواطنين أصليين، ووافدين.
وهو الزمن الذي كوّن فيه التطور التجاري، الاقتصادي في عدن تجمعا سكانيا، ومساحة بشرية، شديدة التنوع، لكنها متعايشة، ومنسجمة مع التطورات ومفاهيم الحياة المدنية، حتى من أولئك الذين قدموا من مناطق أو تجمعات ريفية أو سكانية متخلفة، غدت عدن بالنسبة لهم مركز جذب وإشعاع غير مسبوق في منطقة شديدة الجدب والانغلاق في أغلبها، فانطلقت منها حركة التنوير إلى بقية الأنحاء، مدينة بهذه الحيوية، والعصرية، ماكان ينبغي لها أن تعيش النصف الثاني من القرن العشرين.. قرن التحولات الكبرى، السياسية، والعلمية، والثقافية، والفنية، بإيقاعات القرون التقليدية، فكانت الأغنية العدنية نتاج كل ذلك دون أن تتنكر لأصالتها وبقية الألوان الغنائية التي هضمتها، واستفادت منها، وحافظت عليها، وقدمتها للناس.
(2)
البذرة التي ألقى بها في تربة عدن القابلة للخصب، الرائدان غانم خليل سرعان ما لقيت اخرين يرعونها، يسقونها، لتثمر وتكون منطلقا لأعمال فنية أخرى، اتخذوا منها أساسا لأعمالهم الغنائية الجديدة. فطبعوا فترة الخمسينيات من القرن العشرين وما تلاه بطابعها الذي يصب في طابع الأغنية التجديدية. وهكذا ستظهر إلى الوجود رابطة الموسيقى العدنية عام 1951، إلى جانب ندوة الموسيقى العدنية التي تأسست في سنة 1949. عن ذلك يقول الفنان محمد مرشد ناجي في مؤلفه (أغانينا الشعبية): استمرت الندوة في عطائها الفني وقدمت ألحانا جميلة للفنان خليل، وبعد أن أثبتت الندوة وجودها انضم إليها الفنان سالم أحمد بامدهف، ومكث فيها حوالي عام ثم انفصل عنها. وانضم ثانية إلى رابطة الموسيقى العدنية، والتي اعتبر بامدهف الملحن الأوحد فيها وأسهم في إنتاج الكثير من الألحان بلغت ذروة النجاح. ونتيجة التنافس بين الندوة والرابطة فقد تطور الأمر بينهما إلى احتدام وخصام، ولكن ظلتا تقدمان الجميل من الموسيقى والشعر، وهو ما أبرز عن وجود عدد من الفنانين اليمنيين).
البروفيسور نزار غانم له رأي في هذا التنافس بين الندوة والرابطة، وفي ازدهار الأغنية العدنية بسرعة قياسية. يقول في التسجيل الصوتي الذي أشرت إليه في حلقة الأسبوع الماضي: (هذا الشيء - يقصد ظهور أغنية عدنية - تم بتواتر من الانتجلسيا العدنية التي كانت موجودة، ونجحت لأنها لم توقف عند التدوة العدنية، بل جاءت فروع أخرى، منها رابطة أبناء الجنوب العربي التي أوحت أن تكون هناك ندوة أخرى تحمل اسم رابطة الموسيقى العدنية، كما تشكلت ندوة أخرى تحمل اسم ندوة شباب التواهي، وبعدها تشكلت فرق موسيقية، فيها شيء من التنافس، وخضع الموضوع كله لما يمكن أن نطلق عليه اقتصاد السوق الفنية التجارية التي كانت موجودة في ظل مدينة تجارية مزدهرة زي عدن، وأيضا في ظل تدفق البث الإذاعي، الداخلي والخارجي، وازدهار صناعة الاسطوانات والمراحل التي مرت بها، وهذا التطور التقني كان من أسباب نجاحها وانتشارها، حيث استقطبت عدن ناسا من داخلها وحتى من خارجها، انفعلوا بالمشهد المحلي. هذا كله وظف من قبل الجمعية العدنية بصورة مباشرة وغير مباشرة، لأن الجمعية العدنية كانت موجودة في عام ظهور الأغنية العدنية 1949، وفكرتها كانت لماذا لا يوجد ملمح ثقافي يعبر عن الهوية العدنية المدنية والمدينية. في أشكالها المختلفة، ومنها على سبيل المثال اعتزازهم بأنهم يجيدون اللغة الإنجليزية إلى جانب العربية، ويتحدثونها بطلاقة، بالإضافة إلى معرفتهم بالثقافة الغربية. هذه المعاصرة بين القديم والجديد في عدن كان يتطلب بالمقابل ظهور إنتاج محلي للأغنية تكمل هذا الجزء من الهوية. وبصرف النظر عن التوجهات السياسية للجمعية العدنية، إلا أنها لم تكن ضمن أجندة محمد عبده غانم وخليل محمد خليل، وإن كانا قد لبيا ذلك من الناحية الوجدانية.
(3)
أكثر الناس قربا من هذه الأجواء الحداثية كان الفنان سالم أحمد بامدهف. انضم في البداية إلى ندوة الموسيقى العدنية، ثم غادرها إلى رابطة الموسيقى العدنية التي أصبح الملحن الأوحد فيها، وقد حققق فيها نجاحا منقطع النظير لم يحققه خلال وجوده فى الأولى. والجدير بالذكر والملاحظة أن القاسم المشترك في أغاني بامدهف وخليل كان هو نفسه الشاعر محمد عبده غانم.
أول حفل شارك وظهر فيه سالم بامدهف كان مع الفنان خليل محمد خليل في مخدرة في صيرة، والثاني في راجمنار أسكول في كريتر، أيضا مع الفنان خليل، الذي كان نجم الحفلات الغنائية في ذلك الوقت.
(يا زين المحيا) هو أول عمل جمع بينه وبين الشاعر محمد عبده غانم، كما ذكره الصحافي الفني جميل غانم في كتابه (سالم أحمد بامدهف.. عبقرية الفن والموسيقى).
يقول الفنان سالم بامدهف: الشاعر القدير محمد عبده غانم كان ينظر إلى موهبتي من جانب التلحين، وخوض غمار هذا المجال، وكان يطلب مني باستمرار أن ألحن، ونتيجة إصراره قدم لي أول قصيدة بعنوان (زين المحيا) لكن القصيدة ظلت عندي فترة طويلة دون أن أقوم بتلحينها!!
الخوف، الذهول من إصرار غانم أن يخوض غمار التلحين، الذي لم يسبق أن جربه، أجواء الندوة، كلها عوامل حالت بينه وبين خوض غمار هذه التجربة، وربما كانت الشهرة والنجاح اللذين حققهما خليل، أيضا، إحدى العوامل في تلك الرهبة. لكن محمد عبده غانم الذي كان يؤمن بموهبة بامدهف، ويرى فيه مالا يراه في نفسه، أو الآخرون، ظل على إصراره. تارة ينصحه الذهاب إلى شاطئ حقات، لعل الجو الشاعري للمكان يسعفه على التلحين، وأخرى الإتيان إلى منزله.
يروي بامدهف: توجهت إلى منزله، كنت أتحمل يوميا مشقة السير على الأقدام من بيتي في شارع الشريف بالعيدروس إلى منزله في الرزوميت، أحمل عودي على كتفي، وأسير هذه المسافة إلى أن تمكنت من تلحين القصيدة بالشكل الذي يعرفها الجميع، ونالت استحسان الشاعر غانم الذي اعتبرها خطوة أولى تليها خطوات أخرى.
(4)
صدق حدس محمد عبده غانم فعلا، وإيمانه بموهبة الفنان سالم بامدهف التلحينية. ولعل ذلك كان يلبي رغبة كامنة في نفسه كشاعر بالفصحى بالدرجة الأولى، فبعد تجربة قصيدته (ياحياتي) التي لم تلقَ النجاح على يد خليل محمد خليل، وجد ضالته في سالم بامدهف. فقدما معا بعد يازين المحيا، مجموعة من القصائد الغنائية لاقت النجاح والشهرة.
منها: عرائس اللحن، الهوى والليل. والكثير من الأغاني باللهجة العدنية، منها: قولوا له، على أيش، يابو العيون الكحيلة، حبيتك، مالك كدا مالك، من علمك ياكحيل العين، من غيرك ياحبيب.
(5)
بعد أن ترسخت مكانته كملحن لا يشق له غبار، سجل أعماله في إذاعة عدن، التي افتتحت عام 1954، لكنه لم يعرف أبوابها كما يقول إلا في عام 1956. وفتح له النجاح الذي حققه مع محمد عبده غانم الباب للتعامل مع شعراء آخرين لهم وزنهم ومكانتهم، فغنى من كلمات أحمد شريف الرفاعي (لوحدي أنا كنت ساهر) وللطفي جعفر أمان (بيني وبين الليل) و(من جمالك .. من دلالك) و(ألومك وأعاتبك ) ولمحمد سعيد جرادة (نم على صدري فأنت الأمل؟ ولقيس غانم (الزين جزع مرة) ولعبد المجيد الأصنج (تغيبت يا ناظري)، لكنه شكل ثنائيا رائعا مع الشاعر والرائد محمد عبده غانم، فكان بامدهف جناح غانم الآخر الذي حلق به مع جناحه الأول خليل محمد خليل.
(6)
أثارت ألحان سالم بامدهف العديد من الباحثين، ومن هؤلاء الفنان عصام خليدي، حيث قال في كتاب (عبقرية الفن والموسيقى) لمؤلفه جميل غانم: تميزت غنائياته بغزارة اللحن ورشاقة الإيقاع ورهافة الصوت، تعتمد على منهاج الوثبات المقامية والمساحات الموسيقية الرحبة، وتعدد الكوبليهات، خاصة في تلحينه للقصائد).
وللحديث بقية...
نقلا عن "صوت عدن"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى