شعرية النثر في رواية (صمت الأشرعة) لخالد لحمدي

> أ.د. مسعود عمشوش

>
مسعود عمشوش
مسعود عمشوش
خالد سعيد لحمدي، من مواليد القطن في وادي حضرموت، ومن أعمدة الثقافة في مدينة المكلا. وهو شاعرٌ وقاصٌ وروائيٌّ. وحتى في قصصه ورواياته يأبَى خالدٌ إلا أنْ يظلَّ شاعراً. ولكي يضفي على لغة نصوصه القصصية والروائية مقومات الشعر، يلجأ إلى عددٍ من التقنيات التي نعثر عليها في الشعر والنثر معاً، مثل التركيز على المشاعر الذاتية والعاطفية، ووصف الطبيعة، واستخدام ضمير المتكلم، ولغة تصويرية ورمزية انزياحية، بل وإيقاعية.
وفي هذه القراءة الموجزة للرواية الأولى لـ “خالد لحمدي” (صمت الأشرعة، حضرموت 2015)، سنحاول إبراز بعض التقنيات التي وظفها المؤلف للارتقاء بمستوى لغته، وليجعل نصه أقرب للقصيدة منه إلى الرواية.
وقبل أن نبدأ في قراءتنا لـ(صمت الأشرعة)، نؤكد أن تكثيف اللغة النثرية وشحنها بالعناصر الشعرية يُعدّان من أهم سمات الرواية الحديثة، وذلك في كثير من اللغات والبلدان، لاسيما في الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا. واليوم أصبحت اللغة الشعرية ملمحاً بارزاً في عدد من الروايات العربية الحديثة التي يمكن أن نعثر فيها على بعض تلك السمات، مثل (عرس الزين) للطيب صالح، و(وليمة لأعشاب البحر) لحيدر حيدر، ومعظم روايات أحلام مستغانمي التي يُعد نثرها الشعري من أبرز مقومات أدبيتها ونجاحها الكبير.
الحضور الطاغي لضمير المتكلم
من المعلوم أن اللغة الشعرية، كما تتجلَّى في القصائد الغنائية الوجدانية العربية أو في الشعر الرومانسي الغربي، قد اعتمدت كثيرا على الحضور الطاغي لـ(الأنا) ومختلف مظاهر الذاتية الأخرى. وهناك بالطبع كثير من الروائيين الذين اختاروا لنصوصهم رواة يسردون بضمير المتكلم، وذلك لتحقيق أهداف مختلفة؛ منها إضفاء شيءٍ من الواقعية على نصوصهم الخيالية، أو الارتقاء بها إلى مستوى اللغة الشعرية. نعثر على ذلك مثلا في رواية (روفائيل، صحائف سن العشرين) للشاعر الفرنسي ألفونس دي لامرتين، صاحب قصيدة (البحيرة)، التي تذكرتها عند قراءتي للسطور الأولى من (صمت الأشرعة).
ففي هذه الرواية يتم السرد بضمير المتكلم. ويفتتح أيمن، الذي هو الراوي والبطل في الآن نفسه، خطابه ليس بسرد حدثٍ درامي، بل بهذا التقديم لـ(أناه) مقرونٍ بوصفٍ مشهديٍّ لا يختلف أبداً عن وصف لامارتين لبحيرته: “أنا والبحر وشريفة والسفن والميناء المنسكبة أضواؤه على الأمواج المتكسرة فوق رؤوس الصخور اللامعة بدهشة وبهاء، هديرها يتعالى حدةً، وثمة موجة صغيرة تـُلقي بطرطشاتها ورذاذها على وجهينا بنعومة ورقة. الزرقة والموج ووجه شريفة، وأنفاسنا الدافئة يحتلان المكان ويحلقان في ليل النشوة والألق”. ص9
وكثيرا ما يقطع الراوي السرد دون أي مسوغ لينتقل للحديث عن ذاته وعلاقته العاطفية بشريفة التي باتت صورتها تختزل في ذهنه جميع النساء، وذلك بطريقة هدفها الأول رفع المستوى الشعري للنص؛ فهو يقول: “منذ اللقاء لم أتوقف عن شططي وحلمي، إلى أن صرت أرى في كل الوجوه وجه شريفة. تربكني بعضهن كثيرا في تشابههن بشريفة؛ مشيهن وأصواتهن وأجسامهن. حتى صرت أرى وجهها في أكثر وجوه النساء اللاتي أصادفهن وألمحهن في مسالكي ودروبي. فالعاشق ضعيف منهزم أمام أعين من يرى أنها حبيبته. فأشهد أنك امرأة اكتسحت جذوري وأرضي، فلم أعد أرى امرأة سواك. وحدك أنتِ الطاهرة النقية. وغيرك هم كاذبون”. ص42-43
المراوحة بين الـ(أنا) والـ(نحن)
يبرر كثير من الشعراء الرومانسيين، مثل فيكتور هوجو ولامارتين، مبالغتهم في الحديث عن أنفسهم بذريعة أن الذات تجسّد في الحقيقة هموم الإنسان بشكل عام، وأن (الأنا) هو أنت ونحن. ومثل هؤلاء الشعراء، يعمد الراوي أيمن إلى كسر الحواجز بين الـ(أنا)) والـ(نحن)، ويتنقل بينهما بشكل مستمر في سرده ليضفي عليه مزيدا من الشعرية. وتبرز بوضوح تلك المراوحة بين المتكلم المفرد والمتكلم الجمع حينما يستطرد في الحديث عن سرعة مرور الزمن وضيق الحجز المكاني الذي يعيش فيه (وهما موضوعان رومانسيان بامتياز)، حيث يقول: “زمن مهترئ يمرّ مسرعا، وأرض يغيب فيها الجميع في متاهات ومفازات تستدرج كلا منا نحو هوة لا يشعر بها، ولا يدرك مضايقها ونهاياتها المريرة. فنمر مسرعين بحثا عن قبس يرشدنا إلى نهاية تلك المضايق ويخرجنا إلى النور دون إصابات وخسائر، وحين نصل تلوح لنا من بعيد، بعد أن تنسحب من أمامنا لتتركنا نصارع أقدارنا بعبث وسذاجة وتشبث مستميت بالحياة. لم يعد شيء يؤلمني سوى كلمات شريفة وحياتها، وموت أمها واختفاء زوجها في لحظات غامضة، فتدعوني لكثير من التفكير والتأمل وإعادة حساباتي مرة ثانية، بعد أن أهملت غرفتي البائسة القريبة من بيت عائلة شريفة ذات المجد والتاريخ والقبيلة المحافظة على مجد الأسلاف وماضيها القديم المتوارث بينهم. يحدث أحيان أن نرغب في الاختلاء بأنفسنا في أمكنة نحبها ونموت في عشق جدرانها وأتربتها، وأن غبنا عنها يوما تبقى لها في دواخلنا مواقع لا تمحى أو تطمس آثارها ومعالمها. لذلك أحاول أن أعيد تريب كتبي ودواوين الشعر التي حملتها معي في سفري وأوراق بيضاء كثيرة وأقلام وبعض قصائد مكتملة وأخرى لم تكتمل”. ص25-26
وتظل هذه المراوحة بين الـ(أنا) والـ(نحن) بارزة حتى نهاية (صمت الأشرعة). فحينما يتحدث الراوي أيمن، في صفحة 85، عن وفاة والد شريفة الذي لم يلتق به ولم يحدثه يوما ما، يقول: “رحل ورحل معه كل شيء، كبرياؤه واعتزازه بقبيلته ونسبه، نظراته لمن حوله، وصراحته المعهود بها، وتصنيفه للبشر وفق رؤيته، وتمسكه بماضٍ ذهب وما زال يعيش بداخله. رغم كل هذا أشعر بجزع لموته وفقده، فتعاستنا تكمن في أننا لا نشعر بقيمة الأشياء حين تكون بيننا، وما أن تغادرنا نشعر بفقدها وحاجتنا الشديدة إليها، لكن بعد أن تذهب عنا، وتغيب للأبد. كم نحن سُذّج ولا نعرف حقائق الأشياء وقيمتها إلا بعد فوات الأوان. متعبٌ قلبي ويفيض حزنا وألماً، أخطو وروحي تمتلئ بالقرف والخيبة، ونفسي تضيق بي وتضطرب، وقدمي مثقلة على أرض أكثر تبلدا، أحترق لزمن كان هنا، أضعت خلاله حلمي وغادرني بعجل”. ص85-86
الحوار في (صمت الأشرعة):
في النصوص الروائية، يضطلع الحوار بمهمَّة رفد القارئ بمجموعة من المعلومات المتعلقة بالشخصيات، ماضيها ومشاعرها ونفسيتها ومواقفها، والزمن والأمكنة التي تجري فيها الأحداث. إضافة إلى ذلك ينهض الحوار بوظائف درامية وتفسيرية. وعادة ما يتم التمييز بين الحوار المباشر والحوار غير المباشر، والحوار مع الذات أو المنولوج. وفي النص الروائي المكتوب يخضع الحوار عادة لجملة من الاعتبارات الطباعية.
ومن الواضح أن المساحة المخصصة للحوار في رواية (صمت الأشرعة) تفوق كثيراً تلك المساحة المخصصة لسرد الأحداث المحدودة جدا في هذه الرواية. ولا شك أن أيمن يعطي الأولوية لدوره بوصفه محاورا، وليس لدوره بوصفه ساردا للأحداث النادرة. وليتمكن من التنقُل بيسر بين المهمّتين اختار طريقة فريدةُ لتشكيل النص يمزج بها بين السرد والحوار. فهناك مقاطع حوارية تقع في ثنايا السرد. ففي الصفحة الأولى من النص نقرأ: “أنا وشريفة روحان يسافران في بحر من الحلم والمتعة وحولنا بعض العائلات المنتشرة على الكبس، أو على بعض الأحجار والحشائش القريبة منا. جالسين على كرسيين متقاربين مواجهين للبحر، نحتسي الشاي الأحمر بطعم النعناع الذي تحبه شريفة كثيرا. أنظر إلى البحر فأرى عيناي تلمعان بداخله. أيام طوال وهي غائبة عني، لم تتصل بي ولم تحادثني. أسمع صوتها يحاكي الأمواج المرتطمة بالصخور. تسألني بارتباك ودهشة .. أتحبني يا أيمن ؟ لم ولن أعشق سواك .. كل ليلة أحلم بك تأتين وتجلسين معي إلى ساعات متأخرة من الليل ثم تذهبين عند سماع ديك الفجر وأصوات المآذن المجاورة. واه .. تحلم بي؟ نعم وأرى وجهك مشرقاً كالقمر اكتمالاً. هكذا أنتم الشعراء. طوحت بي كلماتها نحو ضفاف بعيدة، وأخذتني أمواج البحر الهاربة، فتلاشت روحي بداخلها، وغمرني صوت شريفة بشلال من الدفء والأنوثة الآسر”. ص9-10
واللافت أن خالد لحمدي حينما نشر بعض فصول الرواية في مدونته أدرك ما يمكن أن تسببه تلك التقنية الانسيابية من التباس لدى بعض القراء، فعمد إلى التمييز بين مقاطع الحوار بتلوين البنط؛ فجعل السرد بالأسود، ما يقوله عمر بالأحمر، وما تقوله شريفة بالأزرق، وهذا ما يصعب تنفيذه ورقيا.
كما تحتوي رواية (صمت الأشرعة) على نوعٍ فريدٍ من الحوارات ينقله لنا الراوي لا بوصفه مشاركا فيه، بل بوصفه مستمعا متطفلا، ويبدو أن الهدف من نقله لهذا الحوار رغبته في تبرير العتاب الذي وجهه لمعشوقته شريفة. ففي أحد الأيام، عند مروره في السوق بجانب مسجد عمر يسترق أيمن السمع وينقل لنا هذا الحوار: “توقفت في الشارع المنبسط تحت مسجد عمر، ما زال الباعة يفترشون الأرض وبعضهم بدأ في تجميع بضاعته يعتزم مغادرة المكان. أهمهم داخلي:
- كيف أتيت إلى هنا؟
استنهض ممسكا بذاتي. أسمع شابة حسناء تتجاذب الحديث مع شاب ذي وسامة، تثرثر كثيرا ونهذي بكلمات عجلى:
- أهذا كل ما لديك؟
يخاطبها بتوسل:
- أرجوك.
فتجيبه بحرارة وغيرة:
- فلنضع حدا لكل ما هو بيننا.
وتضيف كمن استدرك شيئا:
- أريد أن أعرف منك الحقيقة كاملة.
وتصمت دقائق وعيناها شاخصتان نحوذ ونظرته مصلوبة نحو الأرض، وبعد شيء من الصمت يهمس قائلا:
- اهدئي!
عرفت للتو أنهما عاشقان مشحونان بتيار من العتاب اللذيذ”. ص87
وأحيانا يتحول الحوار الثنائي في (صمت الأشرعة) إلى حوار داخلي مع النفس المتشظية، أو (منولوج) يقترب من الهذيان الشعري. فبعد أن أنْهَى أيمن أول أيام عمله في الميناء، يقول: “خرجت مستحثا خطاي، ولم أشعر إلا وأنا جالس بجانب سائق تاكسي صغير، وقد تلقفتني شوارع المكلا، ولم أستفق إلا وأنا أدخل المفتاح في مزلاج باب غرفتي. شعرت وكأنها تسألني:
- كيف كان يومك؟
فأجبتها بوجع:
- غادرتك الصباح ببهجة وعدت مساءً بروح تملؤها التساؤلات الكثيرة.
تمددت في غرفتي وإذا بنفس عميق يصعد من صدري:
- أو هل أنا خائف من سيدة الميناء؟ فما لحظته في تعاملها مع كل من حولها لا يوحي بشيء مما يحدث. لقد سعت لتلف شباكها حولي، كسمكة مجنونة ما إن رأت الطعم أمام عينيها حتى ذهبت لتمسك به وتراجعت في اللحظة الأخيرة، لم أدر كيف فككت أسري وقد أوشك أن يقودني لنهاية بائسة، أعترف أنني كنت خائفا ومرتبكا وكاد الموقف يفقدني سيطرتي واتزاني. الآن أكاد أجزم أنها مارست مع آخرين ما قامت بفعله معي، وربما يعرف البعض ذلك. وأنا الوحيد الذي لا يعلم شيئا.
- كيف لم يخبرني مبارك بشيء كهذا؟
- إنه اليوم الأول لي في الميناء، والكل مشدود تجاه عمله وليس هناك متسع للهو والكلام.
- ماذا سيقول العمّال لو وصل إلى أسماعهم ما حدث اليوم؟ معي؟
- الحمد لله، ما زلت لم أفقد مسالك خطوي وخطاي”. ص78-79
ونلاحظ أن جزءا من تلك الحوارات الوهمية ليست إلا وسيلة اختارها البطل الراوي ليوصّل للمتلقي ما بداخله من مشاعر وأحاسيس وهذيانات. ويبدو أن هدفها الأول تمكين الراوي من التشبث بأناه الشاعرة ومخاطبة أي كائن. فأيمن، مثلما يتحدث إلى الغرفة يخاطب كذلك البحر، الذي ترك من أجله مسقط رأسه في الوادي إلى غير رجعة، قائلا له: “أيها البحر، شقيّة وكاذبة هي الدنيا، وأنت وحدك الصادق النقي، أنت العالم بيتمي، وبحبٍّ بدأ ولم تتضح نهاياته بعد، وما سوف يوصلني من الفرح أو النهايات المميتة. وأكاد أنتحرر شوقا وحبّا لمدينة آوتني وقلب عشقته، وما زال مرتكن لماض لم يغادره، وعقل يصر على الإمساك ببقايا وهم تخطته المناحي والدروب، وظل ينازع زيفه وحيدا. وروحي عالم من الحب لا يطيق الوحدة القاسية، أصارع وادياً مخيفا وساحلاً عشقته وأرغب في الموت في بحره، وقد أضاء فناراته وابتسم لي كثيرا، حين عانقتني أذرع طرية الندى وبيضاء كحبات المطر”. ص60
وفي أحد الأيام يقدم لنا أيمن نفسه من خلال الإجابة على سؤال طرحه عليه جمل، إذ يقول: “يباغتني صوت صادم:
- أوَلا تعرف من أنت؟
تفاجأت كثيرا، ومن هول صدمتي لجمت بعضا من الوقت، وقلت بعد مرارة وتردد:
- أنا أيمن، روح شاعرة لا تعرف التدليس والمهادنة. جئتُ أبحث عن ملاذٍ أحقق خلاله حلمي. وقد وجدت روحا تطوقني بأذرع من نور. تفهمتني بعمق. ولم أعد راغبا في العودة لأرض كسرتني وسرقت كبريائي. أشعر بامتعاض لتذكري زمن سعيت لمحوه وظل شبحه يعاودني ليعيدني لزمن الشتات والشقاء”. ص89
وتتبيّن لنا بجلاء الوظيفة التفسيرية التبريرية للحوار في رد أيمن على السؤال الذي طرحته عليه شريفة في أحد لقاءاتهما، والذي نتعرف فيه على بعض الأسباب التي دفعت بأيمن إلى مغادرة الوادي والمجيء إلى المكلا، فعندما تسأله: “ أوه يا أيمن تعشق بحر المكلا كثيرا؟ يرد: إنه يُشعرني بالأمان، ويُنسيني اغترابي وخيبتي، أرى فيه الهروب من هزائمي، أنسى خلاله انكساراتي وخوفي، ووادي القلق الذي يلاحق ذاكرتي، وقد سافرتُ عنه وتركته يحترق بين أيدٍ أكثر زيفا ومراوغة”.
*الوصف في (صمت الأشرعة)
ومثلما تتمدد مساحة الحوار في (صمت الأشرعة) تتسع فيها كذلك مساحة الوصف، الذي يُعَد هو أيضا أحد العناصر المهمة في السرد الروائي. وعادةً ما يمثل الوصف (وقفة) في مسار أحداث القصة وزمنها، ويؤدي إلى بطءٍ في إيقاع السرد. ونلاحظ أن الوصف في رواية (صمت الأشرعة) يخضع، في أحد مستوياته، للمنطلقات الرومانسية التي تؤكد أن البطل يهرب عادةً من مجتمعه ومكانه الأصلي ليرمي بنفسه في أحضان الطبيعة. وفي هذه الرواية يؤكد أيمن أنه قد اضطر إلى الهروب الدائم من الوادي إلى المكلا وبحرها. لهذا كان من الطبيعي أن يكرس الجزء الأكبر من الوصف لهذه المدينة والبحر/الكبس المقابل لها.
ومن اللافت أن أيمن، ابن الوادي المتميّز بعمارته الطينية الجميلة، لا يغرم إلا ببيوت المكلا، وبشكل خاص بمنزل حبيبته شريفة الذي “لا يزال محتفظا بأثر تلك الأيدي التي شكلته من الجير والكلس الأبيض، ونوافذ صنعت من الخشب الأحمر ولا تزال تحتفظ بروعتها وجمالها الآسر”. ص24 وينتقد، بالمقابل، عدم التزام المعماريين بالنمط المعماري الخاص بالمكلا، لاسيما فيما يتعلق بتصميم النوافذ في البيوت والعمارات الجديدة، ويلاحظ: “هكذا هي المدن تزحف نحو التطور والتمدن وأن بدأت علامات تغيُر في تشكيل بنائها وصناعة نوافذها وأبوابها توحي وكأنها أتت من بيئة أخرى وتراث قادم من أرض ووطن بعيد”. ص24
ويؤكد أيمن أن للمكلا “أرواح وعيون ترى وتستنكر كل شيء. أوجه منازلها ذات الطراز المعماري القديم تخبرني بتاريخ وصناعة اندثرت وطغى عليها التمدد الحضاري الجديد”. ص32. ويلاحظ كذلك أن التغيّر الذي طرأ في المكلا لم يتوقف عند مسخ واجهاتها المعمارية، بل إلى انتشار عادات وسط سكانها، مثل ظاهرة تعاطي القات بين الشباب: “المكلا مساحة من الأرض كبيرة تختلط فيها الأنساب والأسماء، وتزيد كل يوم اتساعا، ولا يسأل فيها أحد عن أحد، يتشابه ليلها ونهارها، وأغلب شبابها تراهم بعد الظهيرة يتقاطرون مسرعين لشراء العود الخضر ليقتلوا فراغاتهم اليومية المعتادة. هذه البقعة سقطت من الجنة فأتى المتسولون والمجانين ليتصارعوا عليها فيما بينهم. أي منهم أحق بامتلاكها من الآخر “. 27
شعرية اللغة والعتبات في (صمت الأشرعة)
من الواضح أن خالد لحمدي قد سعى، في روايته (صمت الأشرعة)، إلى إكساب النثر السردي أبعادا شعرية عالية من خلال تضمينه صورا فنية، سمعية وشمية وبصرية وحركية، مبنية على الانزياح المجازي والاستعارات والكنايات والرمز. وعلى الرغم من أن الاقتباسات التي أوردناها في السطور السابقة تبيّن بجلاء تلك الظاهرة، يمكننا أن نورد هذه الفقرة التي يفتتح بها أيمن (موسيقى القصر الأخرس): “صوت الجرح يضجّ في أعماقي بقسوة، فتعانقني مقامات سلم موسيقي يئن حرائق وتعبا، وشمعة الإغواء تتمدد خيوطها فلا يبلغ ضوؤها سوى سراديب معتقة بالغربة وانبهارات الانتظار..” ص51
وتتجلى الأبعاد الشعرية للنثر الذي استخدمه خالد لحمدي في روايته من العتبات، أي من العنوان والعناوين الداخلية والتنويه والإهداء. فقد اعتمدت العناوين على مفردات تقع جميعها في معجم الشعراء، لاسيما الرومانسيين منهم الذين عادة ما يوظفون في قصائدهم هذه المفردات (الأحزان والقلق والحلم والجراحات والموت والرفات والبرودة والارتباك والنشيد والموسيقى والصمت والصداء والبحر والسفينة والأشرعة والقصر والممرات). ومما يرفع من شعرية تلك المفردات الطريقة الانزياحية الصادمة التي اعتمدها المؤلف ليركب بها عناوين روايته التي جاءت على النحو الآتي: (صمت الأشرعة، أحزان سفينة صدئة، مرافئ لبحر مرتبك، موسيقى القصر الأخرس، رفات حلم ميت، نشيد المرايا، جراحات باردة، ممرات قلقة).
وفي ختام هذه القراءة نشير إلى أن الشاعر خالد لحمدي لم يكتف بالسعي إلى إكساب لغة روايته (صمت الأشرعة) أبعادا شعرية واسعة، بل إنه جعل من البطل الراوي أيمن شاعرا مثله. ويؤكد أيمن، الذي يؤكد أنه شاعر غنائي ويتغنى بقصائده جاره الفنان عبد الله سلومة الملقب بعبودي الذي يسكن في بيت ملاصق لغرفته بحي السلام. ويقول أيمن “وقد عرفته منذ أول يوم سكنت فيه هنا، وأعطيته كثيرا من قصائدي ليتغنى بها، وهو يعلم متى يغني ومتى يغيب صوته ويختفي”. ص 92
ومن تلك الأبيات الغنائية التي يتضمنها السرد:
“يا رسول الشوق عن خلي سأل
شفه ساكن في وسط حي السلام
قلّه أشواق بقلبي تشتعل
لا متى ذا البعد والفرقة حرام
قبل يأتي الموت ويحين الأجل
طيعني بالوصل قلّي بس تمام”. ص94

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى