محطات نضاليّة أفضت إلى الـ 30 من نوفمبر 1967م.. (11) المناضلة/ نعمة سلام

> كتب / علي راوح

> اضطلعت المرأة الجنوبية بدور هام ومتميز، في مسيرة الكفاح المسلح ضد المستعمر البريطاني، سواءً في عدن أو غيرها من مناطق الجنوب اليمني المحتل.. تلك المسيرة النضالية الطويلة التي توّجت بيوم الاستقلال المجيد، يوم الـ 30 من نوفمبر 1967م.
وكان للمرأة العدنية دورها النضالي الكبير في كل الفعاليات النضالية ضد المستعمر البريطاني، فشاركت المرأة في المسيرات والمظاهرات، وتوزيع المنشورات، ونقل الأسحلة من مكان إلى اخر، لتوصيلها إلى الفدائيين. كما كانت المرأة العدنية تقوم بإخفاء الفدائيين المطاردين من قبل قوات الاحتلال، وتُسعف المصابين.
وتطوّر دور المرأة العدنية آنذاك إلى القيام بالتدريب على استخدام الأسلحة والقنابل، ونقلها وإخفائها في المنازل.. وكان للمناضلات العدنيات دور تحريضي في صفوف النساء للقيام بأشكال النضال المتعدد.
في هذه الحلقة من (محطات نضالية أفضت إلى الـ 30 من نوفمبر 1967م) نكون مع إحدى المناضلات اللاتي قدمْنَ دوراً وطنياً بارزاً في فترة الكفاح المسلح، وصولاً إلى الـ 30 من نوفمبر 67م.. تلكم هي المناضلة الفقيدة/ نعمة سلام.
*قدمتُ الواجب وقضيت أفراح الاستقلال في السجن
قبل نحو 20 عاماً، زرتها في منزلها في مدينة المعلا بمحافظة عدن، قبل وفاتها بعد أن نصحني الأستاذ محمد علي سعد، بضرورة توثيق التاريخ النضالي لهذه المرأة، التي قدمت دوراً بارزاً ومهماً خلال مشوارها النضالي، فذهبت إلى منزلها ووجدتها امرأة طاعنة في السن، ولكن يبدو على ملامحها بقايا من قوة وعنفوان.. سلمت عليها ورحبت بي، فعرفتها بمهمتي الصحفية، موضحاً لها أن تاريخها النضالي يجب توثيقه ونشره باعتباره جزءاً من تاريخ نضال الشعب اليمني الجنوبي ضد المستعمر البريطاني، فردت عليَّ بلطف قائلة: «يا ابني أني قدمت ما قدمته من نضال وكان ذلك واجب عليَّ نحو وطني وشعبي، وكان الجزاء اعتقالي وسجني من قبل دولة الاستقلال عشية الـ 30 من نوفمبر 67م، وقضيت أفراح الاستقلال في زنزانة السجن»، وأردفت: «ومعذرة لك، فلا داعي ولا فائدة من نشر تاريخي النضالي، والجزاء كله عند الله»، قولها هذا زادني تشوقاً ولهفة لمعرفة قصة هذه المناضلة، ولماذا تم إيداعها السجن عشية الاستقلال؟ فحاولت - بتودد - إقناعها بالحديث، وأني أتيت إليها من المنصورة وكلي عشم في تجاوبها، فبدأت تلين، وفجأة طرق الباب أحدهم فقالت لي افتح الباب، لأنها متهالكة وتتحرك ببطء، ففتحت الباب ، وإذ به صديقي القديم الأستاذ عمر باصبرين، فتعانقنا بعد فراق طويل بيني وبينه، ويبدو أنه احد أقاربها جاء يتفقد أحوالها.. وقال لها هذا الصحفي علي راوح، صديق قديم، وكنا جيران في منطقة الطويلة بالقرب من عيادة خالد/ وحدة بن هامل بكريتر، وكان كلامه هذا ضربة الترجيح التي عززت فوزي بالخروج بحديث مستفيض يتناول المسيرة النضالية للمناضلة الفقيدة نعمة سلام.
*بدأتُ منذ فترة الخمسينيات
قامت ببطء وجمعت لي عدداً من الوثائق والصور، ففتحت جهاز التسجيل وبدأت الحوار معها خطوة بخطوة.
بدأت نعمة سلام حديثها قائلة: كنت أقوم في القطاع النسائي لجبهة التحرير أبان الكفاح المسلح، بل وفي فترة متقدمة من قيام الثورة بتنظيم المظاهرات النسائية المنددة بالاستعمار البريطاني، وبدأت بذلك الدور منذ فترة الخمسينيات أبان المد الثوري العربي الذي تزعمه الرئيس والزعيم الخالد جمال عبدالناصر، وأتذكر في عام 1956م قمنا بمظاهرة كبيرة ضد المستعمر البريطاني تأييداً لمصر العربية في إقدامها على تأميم قناة السويس ، فقامت السلطات البريطانية بقمع تلك المظاهرة بشدة وعنف، وتم اعتقالي وعدد من زميلاتي المناضلات ومنهن: زينب ذو الفقار ورضية إحسان الله وزجوا بنا في سجن عدن المركزي. وهناك تعرضنا للضغوط النفسية والتهديد، لكن كل ذلك لم يزدنا إلا إصراراً على النضال والمقاومة ضد المستعمر البريطاني، فخرجنا من السجن وواصلنا النضال دون خوف، بل إن اعتقالنا وتهديدنا زادنا تصميمًا وعزماً على مضاعفة النضال وتوعية وتحريض القطاع النسائي بضرورة مواصلة العمل النضالي حتى خروج المستعمر وتحقيق الاستقلال. وأضافت: كما كنت أقوم أنا والمناضلة زينب ذو الفقار بالذهاب إلى دار العرائس في سلطنة لحج، وكنا نصطحب معنا مجموعة من الأطفال في سيارتنا للتمويه، ونمكث هناك من الصباح إلى المساء (المغرب)، حيث يأتي إلينا أشخاص ويسلمونا بعض الأسلحة والقنابل، فنقوم بوضعها في زنابيل ونغطيها بالفواكة مثل الموز والعنبه، ونعود وكأننا في رحلة عائلية، وعندما نمر على نقطة التفتيش نقوم بمحادثة الجنود البريطانيين باللغة الإنجليزية ونمازحهم، ونعرض عليهم هدايا من تلك الفواكه، وتنطلي عليهم الحيلة بأننا مجرد عائلة مع أطفالها قادمة من رحلة فلا يفتشوننا، ثم أقوم بنقل السلاح إلى منزلي، ويحضر عدد من المناضلين أمثال: عبدالله خوباني وجميل عبده محمد وعلي سريب وغيرهم ويتسلمون بعض الأسلحة والبعض تبقى مخبأة عندي.
وقد تعرض منزلي مراراً للتفتيش من قِبل جنود الاحتلال، فكنت أقوم بوضع ما يوجد من سلاح داخل شوال (جواني)، وأرمي به إلى خلف المنزل قبل دخولهم، وكنا نحن في جبهة التحرير نقوم بإعطاء تلك الأسلحة لأفراد من الجبهة القومية على اعتبار أن النضال واحد ومشترك، وأن القضية واحدة والهدف واحد وهو طرد المستعمر وتحقيق الاستقلال للجنوب المحتل، وإقامة دولة وطنية، وعندما اقترب تحقيق هذا الهدف واقترب يوم الاستقلال انقلب علينا رفاقنا في الجبهة القومية، وفجّروا الحرب الأهلية ضد جبهة التحرير والتنظيم الشعبي، وتلك لعبة لعبتها بريطانيا لكرهها الشديد لمصر وزعيمها جمال عبدالناصر، فكان ذلك الاقتتال الأهلي الذي تدخل فيه جيش الاتحاد إلى جانب الجبهة القومية، فقُتِل من قتل من مناضلي جبهة التحرير، وأصيب من أصيب، وشُرِّد الباقون إلى تعز وغيرها من مناطق الشمال، ونحن زجّ بنا والعديد من رفاقنا في السجون، بدلاً من تكريمنا.
*قابلنا لجنة الأمم المتحدة بالمظاهرات الكبيرة
وعودة للحديث عن دورنا النضالي في تنظيم المظاهرات الصاخبة المعبرة عن رفض شعب الجنوب للهيمنة الاستعمارية، والمطالبة بمغادرة البريطانيين ومنح الشعب حقه في الاستقلال، وإقامة دولته الوطنية (الحديث لايزال لنعمة) التي أضافت: وتعود بي الذاكرة إلى ذلك الحدث عندما جاءت لجنة الأمم المتحدة لتقصي أوضاع الجنوب اليمني المحتل، حيث نظمنا مجموعة كبيرة من النساء وقمنا بالاعتصام في مسجد «العسقلاني» بكريتر، ومن هناك قمنا بتنظيم المظاهرات فور وصول اللجنة إلى مقر المجلس التشريعي، وكنا نردد الهتافات بأصوات عالية، ونندد ببقاء الاستعمار على أرض الجنوب، وكان الحشد كبيرا ومرهبا، فأسمعنا أصواتنا لأعضاء اللجنة الأممية، وهذه المظاهرة المجلجلة الغاضبة أغضبت قوات الاحتلال لأنها تعبر عن حقيقة رفض شعب الجنوب لبقاء المستعمر، الأمر الذي أوصل رسالة واضحة إلى لجنة تقضي أوضاع الجنوب (اللجنة الأممية)، مفادها أن شعب الجنوب يطالب وبشدة بخروج المستعمر البريطاني وإعطائه حريته في بناء دولته الوطنية بعد احتلال دام (129) عاماً، ظل فيه شعب الجنوب يتجرع المرارة، وأصبح فيه المواطن الجنوبي مهاناً ومهمشاً، بينما أعطت بريطانيا للأجانب من غير اليمنيين الأولوية في تقلد الوظائف المدنية والأمنية، وفضلتهم في الجانب التعليمي، بحيث تعطي المنح الخارجية في الدراسة العليا لأبناء وبنات الأجانب من الجاليات الأجنبية على حساب ميزانية عدن، وتلك هي سياسة المستعمر بهدف بقائه طويلاً، فكانت تلك المظاهرة الكبيرة التي فضحت قوات المستعمر أمام لجنة الأمم المتحدة لتقصي أوضاع الجنوب..إلى جانب قيام رفاقنا الفدائيين في تلك الأثناء بالعديد من العمليات العسكرية التي أوصلت فيها أصوات الرصاص والقنابل وقذائف الـ «آر.بي. جي» إلى مسامع أعضاء اللجنة، فتصدت قوات الاحتلال للتظاهرة التي قمنا بها، وأطلقوا القنابل الصوتية وقنابل مسيلات الدموع والرصاص لتفريق المظاهرة.
*اعتقلوا الأصنج وباسندوة فاقحمنا مقر المندوب السامي
وعندما تم اعتقال المناضلين عبدالله الأصنج ومحمد سالم باسندوة، توجهنا بمجموعة كبيرة من النساء إلى مقر المندوب السامي البريطاني في مدينة الاتحاد سابقاً «مدينة الشعب حالياً»، واقتحمنا المقر بعد السحور حيث كان ذلك في شهر رمضان واعتصمنا فيه، ووضعنا العديد من اليافطات مطالبين بالإفراج عنهما، ومكثنا هناك عدة أيام وكان أهالي الحسوة ومدينة الشعب يحضرون لنا التمور وبعض الأغذية، وواصلنا اعتصامنا حتى نهاية رمضان، وليلة العيد جاء إلينا العديد من المسئولين وأشعرونا بأنهم سيطلقون سراح الأصنج وباسندوة، فكان ردنا بصرامة وإصرار، وقلنا لهم لن نفض الاعتصام ولن نغادر المبنى إلا بعد الإفراج عنهما، وتحت هذا الإصرار والشدة مع المستعمر من قبل ذلك التجمع النسائي، وجد المستعمرون أنفسهم في مأزق، فاضطروا إلى الإفراج عن المناضلين الأصنج وباسندوة، وعندما تأكدنا من حقيقة الإفراج عنهما أخلينا مقر المندوب السامي وعدنا إلى منازلنا بعد أيام مضنية خلال فترة الاعتصام، ولكن حققنا المقولة (ما أخذ بالقوة فلا يستعاد إلا بالقوة).
تدرّبنا في (المخا) على
*الأسلحة والقنابل
وتمضي المناضلة/ نعمة سلام (رحمها الله) قائلة: بعد ذلك طلبوا منا الانتقال إلى الحديدة، للمشاركة في الاحتفال المقام هناك بحضور القيادة السياسية، ونقلونا من تعز بطائرة عسكرية لأن الطريق لم تكن آمنة حينها، لأن الثورة السبتمبرية كانت في بدايتها والأوضاع الأمنية غير مسيطر عليها، بالكامل، وعند وصولنا إلى الحديدة شاركنا في زيارة المصابين من العسكريين المصريين في المستشفى، ثم بعد ذلك انتقلنا إلى مدينة المخا، وهناك نضمت لنا دورة لمدة شهر للتدريب على استخدام الأسلحة الخفيفة والقنابل اليدوية وكيفية التعامل معها، واستخدامها في الرمي على الأهداف البريطانية، وتم تدريبنا من قبل المناضل الفقيد/ علي محسن مريسي وشخص آخر من صنعاء، وكان معي في هذا التدريب الفقيد/ عبدالله خوباني وزينب ذو الفقار، وكنا فيما بعد نحمل القنابل في المظاهرات حماية من أي هجوم على المتظاهرات.
*عشيّة الاستقلال وضعوني في سجن (المتروبول)
وتختتم المناضلة نعمة سلام حديثها قائلة: نحن قدمنا وشاركنا في النضال والتضحية في سبيل وطننا، ضحينا وتعبنا رغم ما واجهناه من تعسف واضطهاد من قبل قوات الاحتلال وعملائه، وكان هدفنا وحلمنا الغالي هو جلاء المستعمر وتحقيق الاستقلال، وقيام الدولة الوطنية التي تضمن للمواطن حريته وعيشه الكريم، وإقامة المساواة والعدل بين أبناء الوطن.. وعندما تحقق هذا الهدف في الـ 30 من نوفمبر 67م كنا نتوقع التكريم والتقدير من قبل دولة الاستقلال، إلا أن الجزاء والتكريم كان من نوع آخر، ففي عشية الاستقلال داهموا منزلي وقادوني إلى المعتقل (سجن المتروبول)، كما تم اعتقال عدد من الرفاق المناضلين، وأذكر منهم: عبدالله خوباني ومعتوق خوباني وأحمد حميدان وآخرون، وقضينا أفراح الاستقلال في زنازين السجون، فكان هذا هو التكريم من قبل رفاقنا الذين تسلموا الاستقلال من بريطانيا.. ولكن ما قدمناه كان هو واجب نحو وطننا وشعبنا، وليس منِّة، والجزاء من الله وحده.
كتب / علي راوح

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى