جرحى تعز.. تجاهل واضح لمعاناتهم وحقوقهم من قبل الحكومة الشرعية والقيادة العسكرية.. الجريح بشير غيلان.. من ميدان الصمود إلى رحلة البحث عن راتبه

> تقرير/ صلاح الجندي

> لم تسلب الحرب أرواح الناس فقط، بل سلبت منهم أحلامهم، وأصبحوا موتى على قيد الحياة، في إعاقات مختلفة، إما طريحو الفراش أو مشلولة أنصاف أجسادهم. ومع استمرار الحرب في اليمن توقفت سعادة الكثير من الأسر التي أصبح القائمون عليها من ذوي الإعاقات الدائمة، وممن حرموا من حقهم في العلاج، وحقهم في الراتب.
حسرات تحكى من أفواه أبطال هذه المدينة تحزن القلب وتدخلك في شرود طويل تقلب فيه وعوداً وتصريحات رجالات الحكومة لهم، وتستذكر مؤتمرات المنظمات الداعمة في أكثر من مناسبة ونقاشات ملفات جرحاهم من محفل إلى آخر ومن دولة إلى أخرى، دون جدوى.
حتى تلك التصريحات الكاذبة التي أدلى بها وزراء الشرعية أمام عدسات الكاميرات، وسمعها الجرحى في شاشات التلفاز، والتي جعلتهم يستبشرون بقرب الفرج لمعاناتهم، غير أنهم وصلوا إلى قول “هؤلاء يكذبون”، فتصفعك تنهيدة أحدهم وكلمات مجروحة تخرج من صدر مكلوم لا حول له ولا قوة.. ويطلق آخر ذخائره نحو السماء “حسبنا الله ونعم الوكيل”.
هنا تقف مذهولا مما تسمع، وتكاد تبلعك الأرض، تلملم ما بقي في ذاكرتك المشتتة دون جدوى، فتردد آخر كلماتهم “حسبنا الله ونعم الوكيل”، وتنهض من مقعدك لتستند فتلتقف عكازاً مرميا بالأرض وتهم بالرحيل.
*بشير ورحلة البحث عن راتبه
“لم أكن في كشوفات الشهداء ولا الجرحى”، يبدأ بشير حديثه لصحيفة «الأيام» بهذه العبارة التي تفسرها قصته التالية مع البحث عن اسمه في قوائم كشوفات مرتبات الجيش الوطني.
يستعيد بشير غيلان ذكرياته مع بداية سقوطه جريحا في جبهة الضباب غرب محافظة تعز، إلى سقوط اسمه من كشوفات رواتب الجيش الوطني.
بشير غيلان في العشرينيات من عمره، خرج كغيره من أبناء بلدته للدفاع عن مدينته تعز ودحر المليشيات الانقلابية منها، لينال شرف الدفاع عنها، حتى أصيب فكان أول جريح في جبهة الضباب.
أشيع عند الجميع أن بشير شهيد بسبب الإصابة الخطيرة التي تعرض لها، غير أن أجله لم يحن بعد، وأصبح من ضمن الجرحى الذين لم تشفع لهم جراحهم في نيل استحقاقاتهم كزملائهم من جرحى الجيش الوطني.
يقول بشير غيلان في حديثه لـ«الأيام»: "ضاع اسمي، أصبحت لا شهيد ولا جريح، في كل مرة يوعدونني في قيادة محور تعز بأن اسمي سيرفق من بين كشف جرحى الجيش، أو من بين كشوفات المرقمين، ومع كل مرة يسقط اسمي ولا أدري ما السبب؟!".
يضيف بشير في حديثه: "على الرغم من استيفاء ملفي إلا أنني لم أستلم أي راتب، ومع كل صرف للرواتب أذهب أتابع لعلي أجد اسمي ضمن من يستلمون رواتبهم، ويخبرونني بأن اسمي سقط، فأصابُ بخيبة أمل، لأنني أصبحت بعد الإصابة أشبه بالمعاق الذي لا يستطيع أن يقدم لأسرته شيئا".
*ضياع الحلم
كان بشير غيلان طالبا جامعيا في كلية الحقوق بصنعاء، مستوى ثالث، وبعد مشاركته في المعارك أصيب بفقدان الذاكرة لعدة أشهر، وأصبح لا يعرف القراءة ولا الكتابة، وبدون ذاكرة، وبعد عودة ذاكرته أصبح مشلول الرجل لا يقوى على السير إلا بصحبة العكاز، ولم تثنه إصابته عن مشاركة أبطال الجيش الوطني معاركهم.
خطفت الحرب حلم بشير في التعليم، وخطفت القيادة العسكرية حقه في الحقوق العسكرية، وخطفت الشرعية حق بشير في العيش الكريم والدولة المدنية التي خرج من أجل بنائها واستعادة الشرعية.
*صمود وعزيمة
لدى بشير طموح وعزيمة تفوق عجزه وإعاقته، فهو لم يتوقف عن ممارسة التعليم، وبدأ يتعلم من الصفر، ويحظر دروس الأبجدية عند بعض الصغار من جيرانه ليعلموه الكتابة والقراءة، وكيف يكتب اسمه، بعد أن كان أحد المتفوقين في كلية الحقوق بجامعة صنعاء.
ومع اشتداد المعارك في جبهات ريف تعز حمل بشير نفسه إلى الجبهة، وأصر على ضارب المدفعية أن يسمح له بالمشاركة في المعركة، وكان يضرب بقذائف المدفع نحو أعدائه الذين تسببوا في إعاقته، ثم منعه رفاقه حفاظا على صحته، لم يخذل رفاقه ولم يخذلوه، لكن ثمة تجار حروب خذلوا بشير بحرمانه في حقه الوظيفي في الجيش الوطني.
ويعتبر بشير أول جريح من المقاومة الشعبية في جبهة الضباب عند بدء تأسيسها، أصيب برصاصة أحد قناصة المليشيات في رأسه واعتقد الكثير أنه فارق الحياة.
يقول أحد رفاقه: بعد إصابة بشير بطلقة القناص في رأسه قمنا بسحبه إلى جوار عمارة ولم نتمكن من سحب جثته إلى المشفى بسبب كثرة الرصاص المتطاير فوق رؤوسنا، وظل لساعات حتى تمكنا بمساعدة أبناء الحي من نقله إلى المستشفى الميداني” .
*شلل نصفي
وبعد العمليات الجراحية الأولى في تعز نقل بشير إلى الخارج لتلقي العلاج وعاد إلى اليمن بعافية لا بأس فيها، بعد فقدان ذاكرته لبعض الأشهر، وإصابته بشلل نصفي، غير أن هذا الأمر لم يشفع له أن يجد اسمه ضمن قوائم المنضمين إلى قوات الجيش الوطني، ليجد نفسه في رحلة متابعة قيادة محور تعز، لإضافة اسمه أسوة بزملائه، ولا جديد حتى اليوم.
يقول بشير لـ«الأيام» بلسانه الثقيل الذي ينطق بصعوبة: “أنا رب أسرتي الوحيد، متزوج ولدي ثلاثة أطفال صغار، وأبي وأمي عاجزان بسبب كبر سنهما، ولا يستطيعان فعل شيء، وأصبحت عائلهم الوحيد الذي لا يقدم سوى الوجع ومرارة العيش، ولم أستلم أي مستحقات كجريح أو كمقاوم، وكذا لم يدرج اسمي ضمن كشوفات الجيش الوطني”.
ويضيف بشير: “لا أريد منهم شيئا، فقط أريد حقي في ضم اسمي لكشوفات رواتب الجيش، كوني مستحقا، فهناك الكثير من الأسماء الوهمية في الكشوفات، ومن ضحوا بدمائهم وأرواحهم يتعمدون إسقاط إسمائهم، ولا ندري لماذا؟!”.
*انكسار
يراقب بشير كل يوم أية أخبار تتحدث عن قرب صرف رواتب الجيش الوطني في تعز، آملا أن يجد اسمه في كشوفات رفاقه الذي سبقهم تضحية، ومع كل عملية صرف تجد بشير يتخبط من مرفق إلى آخر ومن مندوب لآخر باحثا عن اسمه، وعندما تسأله عما إذا وجد اسمه في الكشوفات، يجيبك بعينيه اللتين احمرتا من التعب: “قالوا سقط ثاني مرة”.
لم يشفع لبشير قيام الكثير من قادة المقاومة والجيش في تعز برفع مذكرات إلى قيادة المحور للاهتمام بوضع بشير وترقيمه أسوة بزملائه، غير أن كل محاولاتهم تفشل أمام قيادة لا تحترم تضحيات الأبطال.
*مقاومون على لائحه النسيان
تعرض الكثير من المقاومين والجنود المنخرطين في صفوف الجيش الوطني إلى إصابات بالغة، وصلت في البعض منهم إلى إصابات دائمة، أثناء تلبية نداء الدفاع عن وطنهم المسلوب من بقايا الإمامة الرجعية والمنبعثة من صفحات العقود المنطوية، المكونة من غبار أسلافهم المتهالكة.
خاضوا معارك القتال في كل زوايا وشوارع مدينة تعز منذ انطلاق أول شرارة الدفاع عن أرضهم وعرضهم، فكانوا كالحمم البركانية يتقاذفون في التصدي للمغتصب، الذي أتى من كهوف الحقد والإمامة، أعداء الجمهورية والثورة.
يشيعون شهداءهم ويصرون على نهجهم الذي آمنوا به، مات من مات وبقي منهم من بقي، ليشهد ما آلت إليه ظروف البعض من رفقاء البرد والليل والتضحية، في طوابير المستشفيات وفي الأسِرة وفي غرف العناية المركزة يفتقرون لرد بعض الجميل، أو نظرة إجلال وتقدير لتضحياتهم من قبل قيادة الحكومة الشرعية، أو ممثليهم في هذه المدينة.
جريح آخر يتحدث لـ«الأيام» قائلا: “ليس العلاج والسفر ما حرمنا منه، فقد سقطت أسماؤنا من كشوفات الرواتب، والبعض منا لم يضم في كشوفات الجرحى، وقيادة المحور لديها كشوفات وهمية سواء فيما يخص الجرحى أو الشهداء أو المجندين، واستثنت بعض جرحى المقاومة الذين فدوا بأرواحهم أرض تعز بأسماء وهميين”.. فإلى متى يستمر حال الجرحى والتلاعب بمعاناتهم والمتاجرة بإصاباتهم؟!.
تقرير/ صلاح الجندي

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى