أبوبكر سالم بلفقيه.. النهر المتدفق والنغم الخالد

> أديب سعيد مقطري

> منذ يوم وفاة الفنان الكبير أبوبكر سالم بلفقيه، يرحمه الله، في الـ 10 من الشهر الفائت، وهاتفي مغلق، قل حديثي، والحزن مستبد بقلبي، لأن وفاة فنان عظيم بحجم البلفقيه حدث عظيم، ومن أين لنا فنان بحجمه وعبقري مثله، فيصبح الكلام مجرد ثرثرة لا تُنسي الوجع، وانشغال متكلف لا يخفف الألم.
ذرفت عيوني دموعا، وكم مات من عزيز ولم تذرف عيوني دموعا، لأن البلفقيه هو أغلى الأعزاء وأعز الغالين، رغم كوني لم أعرفه شخصيا، لكن البلفقيه استطاع بصوته وبأغانيه أن يقيم بيني وبينه علاقة إنسانية رائعة، فكان صديقي، يعبر عن مشاعري وأحلامي وأمنياتي، وعن مرح الحب في الصبا المبكر، وعن الحب الناضج، وعن مخاوف الآتي، وإذا سقطت عليّ نائبة أو أزمة نفسية أو إحساس ثقيل بالوحدة والإحباط، كانت أغانيه تعيد لي توازني وتخرجني من أزمتي النفسية وتملأني بالتفاؤل.
فنان بحجم الوطن كله، عشق الأغنية الخضرمية، بأنماطها القديمة التي بدأت تصبح مستهلكة، لا تنسجم مع اتجاهه للتجديد، ليقدمها في معان شعرية جديدة، أسهم هو في صياغتها، وأسهم في تلحينها تلاحين جديدة مبتكرة، وأسهم معه إلى حد كبير الشاعر والملحن الكبير حسين أبوبكر المحضار، وغناها بمصاحبة الاوركسترا، فإذا وقف ليغني على خشبة المسرح أمام الجمهور، تخاله يعصر روحه في وجدانه بمزيج من مشاعره وخلجاته، وتعابير وجهه تتغير وفقاً للمعنى وإيحاء النغمة، فكان أداؤه فريدا، وكأنه يقتطع الأغنية من فؤاده، في أداء يحوله إلى كتلة من الأحاسيس، لم نجده عند غيره من المطربين العرب الكبار، قديما وحديثا، لأن البلفقيه كان يعشق أغانيه وكلماته وألحانه، وأغاني المحضار وكلماته وأغانيه، ويعشق الأغنية الحضرمية، ويعشق الموسيقى والغناء.
ورغم أني، كما قلت، لم أعرفه شخصيا كما ظللت أتمنى، لكني أكاد أجزم أن البلفقيه على خشبة المسرح، شخص مختلف عن البلفقيه في حياته العادية، فهو فيها هادئ ومتزن وحكيم، كما نراه في حواراته المتلفزة، أديبا وشاعرا كبيرا، رغم تقليدية بعض الأسئلة التي توجه له وسخافة البعض الآخر، وكم أتمنى من الأقلام الأكثر وعيا مني، تناول هذا الجانب من شخصيته الفنية، وكم في شخصيته الفنية من جوانب فريدة لم يتناولها أحد.
ومن الواضح أن التجديد هو أحد جوانب الرسالة الفنية لأبوبكر سالم بلفقيه، ومشروعه الفني، ولا نجاح لأي فنان ما لم يمتلك مشروعه الفني الخاص، كما كتب وأشار لذلك الأستاذ القدير مختار مقطري، في أكثر من مقالة من مقالاته الرائعة، وهو أستاذي.
وكان تجديد الأغنية الحضرمية هو المشروع الفني الكبير الذي كابد واحتمل وغامر وشقي وتغرب وحزن البلفقيه لتنفيذه، للخروج من دائرة الأغنية الحضرمية الكلاسيكية، في الستينيات، ولا أغالي إذا قلت إن تنفيذ مشروعه الفني امتد تأثيره على الأغنية الخليجية والعربية عموما.
وفي عدن تعرف البلفقيه على عدة أشكال من التجديد في الغناء، منها التجديد في الأغنية الشعبية، والتجديد في الابتكار في التلحين والموسيقى، والتجديد في النص الشعري، وقد تعلم البلفقيه كل ذلك وغيره على أيدي فنانين كبار، مثل أحمد قاسم والمرشدي ومحمد سعد، بل وسعى إلى التعلم عند فنانين كبار من خارج عدن، وقد نشرت صحيفة “الأيام” في عدد يوم الإثنين الموافق 12/18 في صفحة (الفن والفنانون) مقالة للأستاذ الإعلامي القدير رشاد ثابت بعنوان “البلفقيه.. من تريم إلى عدن” وفيها صورة قديمة ونادرة تعود للخمسينيات من القرن الماضي، وفيها يظهر البلفقيه شابا صغيرا جالسا مع ثلاثة من كبار الفنانين المجددين للأغنية العدنية واللحجية، وهم يحي مكي وعبدالله هادي سبيت وصلاح ناصر كرد، وفي الصورة دلالة على أن رغبته الكبيرة في التعلم جعلته متواضعا، يسعى ليتعلم من الفنانين الكبار، وليس كما يفعل مغنيو هذه الأيام، وهو بجلوسه بينهم يعترف لهم بالفضل والأستاذية، لينهل من فنهم ومن خبراتهم.
وفي تلك الفترة (الخمسينيات) كان قد بدأ يقدم نفسه للجمهور، شاعرا وملحنا ومطربا، وكانت أول فرصة عندما قدمه للجمهور الفنان الكبير محمد مرشد ناجي، في إحدى الحفلات، ليغني أغنية (ياور ما احلى جمالك) من كلماته وتلحينه، ونجح في فرصته الأولى، وصفق له الجمهور بحفاوة، كلمات جميلة ولحن بديع، ثم توالت أغانيه في عدن من كلماته وتلحينه مثل (خاف ربك) و(ما تستلهش الحب) و( كل شي معقول) و(الحلاوة دي كلها من فين) وغيرها، وتبقى أغنية (ياطايرة طيري على بندر عدن) أغنية عشقه الكبير لعدن.
لكن الأغاني الأولى الرائعة التي قدمها البلفقيه بعدن، كانت إثبات حضور في الساحة الفنية، هدفه الانتشار وإثبات الكفاءة وقوة وأصالة الموهبة، فهي أغان تجديدية عدنية، نصا وألحانا، أسهمت كما أسهمت أغاني غيره من الفنانين الكبار في تجديد الأغنية العدنية، وكان البلفقيه صاحب مشروع تجديد الأغنية الحضرمية بدون منازع، شكلا ومضمونا، وكانت بداية تنفيذ المشروع عند التقائه بالشاعر والملحن الكبير حسين المحضار، الذي وجد في نصوصه نصوصا حضرمية جديدة، وفي ألحانه ألحانا براقة تغرف من نهر التراث، ثم ترتدي حللا زاهية جديدة، فكانت (يازارعين العنب) و( يارسولي توجه بالسلامة) وغيرها من الروائع، وتدفقت الأغنية الحضرمية الحديثة تدفق النهر، وانتشرت في اليمن كله وفي الجزيرة والخليج.
وفي السبعينات من القرن الماضي، وبانتشار شريط الكاسيت، كنت لا تمر في شارع ولا تدخل بيتا أو مكانا في عدن، إلا وتسمع صوت البلفقيه، فقد غزا عدن بصوته الفريد وأغانيه الحضرمية الجديدة، وتشكل جيل جديد من عشاق البلفقيه، وأنا واحد من عشاقه، ولكن من جيل تالٍ، مما يعني أن عشق فن البلفقيه يمتد عبر الأجيال.
توفي الفنان الكبير أبوبكر سالم بلفقيه، يرحمه الله، وتوقف النهر الحضرمي الخالد عن التدفق، وكما ارتوينا نحن من نهر فنه الخالد، سترتوي أجيال قادمة بتدفقاته من قبل.
توفي البلفقيه.. توفي صديقي.. ولا يزال هاتفي مغلقا، وحديثي قليلا.. وحزني كبيرا.. وعزائي الوحيد استماعي لأغانيه.. ففيها خير العزاء.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى