مرضى الفشل الكلوي.. الغسيل الأخير ممزوج بفساد وإهمال حكومي متعمد.. أعباء مضاعفة وسموم متراكمة في أجساد تصارع الموت

> تقرير/ نادر الصوفي

> يـأخذ غسان علي حمود، وهو مصاب بمرض الفشل الكلوي، مقعده قبالة أحد مشافي مدينة عدن، لكن غسان ليس الوحيد الذي يعاني، إذ إنه أحد ثلاثة أخوة يعانون من المرض ذاته.
وغسان الذي ينتمي إلى محافظة الضالع إلى الشمال من عدن، ينحدر من أسرة فقيرة، بدت المعاناة واضحة على هيئته، لكن مرض الإخوة الثلاثة الوراثي يرجع إلى خلل في عمل الكلى أدى في النهاية إلى إصابتهم بمرض الفشل الكلوي.
غسان اختصر الكلام والأمنيات قائلا: «كل ما نحتاجه هو مركز للغسيل في مدينة الضالع، ومعاناتنا الحالية تتضاعف مرتين، أولهما السفر من الضالع، وثانيهما أوجاع المرض ممزوجة بالانتظار».
*غسيل لتأجيل الموت
قبالة بوابة مبنى مركز الغسيل الكلوي في مستشفى الجمهورية وسط مدينة عدن، تبدأ معاناة الآلاف من مرضى الفشل الكلوي، الذين باتوا يعانون أكثر من أي وقت مضى.
ومع كل صباح عند الخامسة فجرا يفتح مركز غسيل الكلى التابع لمستشفى الجمهورية أبوابه لاستقبال مرضى جدد، لكن العشرات يتجمعون قبل الموعد بحثا عن غسلة تبقيهم ليوم آخر على قيد الحياة.
وقبالة البوابة ينتظر كل مريض دوره لغسيل الدماء المختلطة بالسموم المتراكمة بعد أن تضاعفت ساعات الانتظار، لكن هؤلاء يبدون يائسين ومحبطين، نتيجة الإهمال الحكومي هذا، بالإضافة إلى سوء الظروف المادية.
وتقول الدكتورة نبيهة أحمد سالم باماجد، وهي مسئولة مركز الغسيل الكلوي لـ(البعد الرابع): «المركز يتحمل عبء مرضى الفشل الكلوي في المحافظات المجاورة لعدن، طوال الأسبوع، ونحن نعمل بجهد مضاعف، ونظرا لزيادة أعداد الحالات، للأسف الشديد، نقول إننا لم نعد نستطيع ترتيب مواعيد جديدة لهم قادم الأيام».
وتضيف الدكتورة نبيهة: «في صباح يوم جديد وصلت إلينا أكثر من 13 حالة من مديرية الحبيلين في ردفان، خصص لهم فاعل خير سيارة (باص) كمساعدة إنسانية لينقلهم إلى مركز الغسيل، ونحن حتى نسهم في تخفيف معاناتهم خصصنا لهم وقتًا إضافيا يبدأ من السادسة صباحاً حتى الساعة 1 ظهرا، ومثلهم كل من يأتي من الأرياف المحيطة بالعاصمة عدن».
تردف الدكتورة نبيهة: «المريض ينتظر منذ يومين، لا نستطيع أن نعمل له جلسة غسيل بالمعايير الطبية المحددة عالمياً، كون كل مريض من حقه عمل جلسة لمدة 4 ساعات في اليوم، 4 جلسات في الأسبوع، لكن كل ما يحصل عليه كل مريض أقل من ذلك بكثير، عبارة عن جلستين في الأسبوع و3 ساعات في اليوم، وهذا طبياً ينعكس على صحة المريض، وهو ما يزيد من تراكم السموم والسوائل».
تقول باماجد مختتمة حديثها: «هذه إمكانيات دولتنا الحالية».
*معاناة في تزايد
تعاظمت مأساة مرضى الفشل الكلوي، حتى بلغ صداها المنظمات الإنسانية والصحية العالمية، اللجنة الدولية للصليب الأحمر بدورها ناشدت المعنيين قائلة: «آلاف اليمنيين المصابين بالفشل الكلوي ممن يواجهون خطر الوفاة يقفون على حافة الموت ما لم تتلقّ مراكز الغسيل الكلوي المتبقية في البلاد المزيد من الإمدادات، وما لم تُدفع أجور الطواقم الطبية العاملة بها»، لكن السلطات والجهات الرسمية لا تلتفت لمعاناة هؤلاء الذين باتوا يعانون ويتنقلون من المراكز الثلاثة للغسيل في عدن.

تبدو معاناة مرضى الفشل الكلوي في هذا البلد معقدة، ويمكن وصفها بالقضية المركبة التي تحمل في جوفها أكثر من مشكلة وتتطلب أكثر من حل، ووفقاً لوصف الدكتور أحمد الجربى، الذي قال: «إن القضية تكمن في أن المرضى والدولة يعتقدون أن العلاج يتمحور بحصول المريض على غسلة كل يوم، فيما أن الغسيل هو إجراء مؤقت لمدة زمنية قد تكون 3 أشهر بهدف الحفاظ على حياة المريض حتى يتمكن من إيجاد المتبرع، وبالتالي يجري عملية زراعة، أما الحقيقة، ففي اليمن يستمر المريض سنة إلى 15 سنة وهو يجري الغسيل الكلوي، والنتيجة ازدياد أعداد المرضى فيما الموازنة المالية هي ذاتها لا تلبي التطورات لأعداد المرضى».
الدكتور أحمد الجربى
الدكتور أحمد الجربى

الحصيلة يلخصها الدكتور الجربى في مشفاه قائلا: «لدينا في الجمهورية اعتماد مالي لمركز غسيل الكلى لـ18 ألف جلسة في السنة، في حين أجرينا العام الماضي 25 ألف جلسة، ويتضح أن لدينا 7 آلاف جلسة عجز، فيما الجلسة الواحدة تكلف 44 دولارا، ليبلغ إجمالي العجز المالي 308000 دولار في السنة، وبالتالي يصبح هذا الرقم مضاعفا في الأيام القادمة».
هذا الأخير يضيف: «المحافظات حول عدن لا تتوفر فيها مراكز غسيل كلوي لا في لحج ولا الضالع ولا يافع ولا أبين، كل الحالات في تلك المحافظات تتوافد إلينا، ومع سوء الأوضاع الإنسانية جراء الحرب في تعز، والحديدة، باتت تأتي إلينا حالات من تعز ومن إب والمخا والبيضاء، فيما المركز قدراته الفنية والأيدي العاملة والأجهزة والميزانية محدودة، نحن المركز الوحيد في العالم الذي يفتح أبوابه منذ الساعة الخامسة صباحاً ويغلق الساعة 12 ليلاً وبنفس القوة البشرية والإمكانيات، كل ذلك من أجل ألا يموت المرضى».
*لا حلول جذرية
نحن في صالة الانتظار، داخل مبنى الغسيل الكلوي في مستشفى الجمهورية العريق، ننتظر إكمال الإجراءات الوقائية التي يلزمك بها المسئول في الاستقبال، يجب عليك أن تلبس أكياسا (بلاستيكية) على شعر رأسك و قدميك.
بعد أن تفتح الباب وتدخل صالة الغسيل، البالغة 30 مترا تقريبا وعرض 10 أمتار، تجدها مزدحمة بأسرة المرضى التي تجاورها الأجهزة الطبية، وجميعها موزعة على جانبي الصالة، وفوق كل سرير يرقد مريض فشل كلوي، موصل في جسده ناقل الدم إلى الأجهزة لتعيد تنقية دمائه وتصفيتها لتعود إلى جسده خالية من السموم.

وفي الأثناء نفسها كانت الدكتورة نبيهة أحمد، مسئولة مركز الغسيل الكلوي بجانبنا، التقطت الكاميرا صورا للمرضى، ومن بين هؤلاء كانت مريضة سمعنا أنها توفيت لاحقا، كان هذا خبرا صادما للمرضى الذين ظهر عليهم الحزن.
في أحد أروقة المكان يلفت انتباهك أحد المرضى وهو يبدو في عمر الـ13 عاما، لكنه قد تجاوز 18 عاما، تقول الدكتورة نبيهة: «هذا قائد فضل ناجي، أحد مرضى الفشل الكلوي المنتظمين لدينا منذ منذ 9 أعوام، يأتي مرتين في الأسبوع من منطقة الحبيلين، مسقط رأسه».
وحتى تفهم لماذا ما يزال قائد طفلا، تجيب باماجد بقولها: «إن الطفل الشاب يعاني من مرض السكر، إضافة إلى شبكية العين، فيما ظروف أسرته أكثر من مأساوية، فوالده عسكري، وراتبه متوقف منذ عام ونصف، يعمل في الحرف اليدوية حتى يتمكن من إحضاره إلى هنا».
يوجد في عدن ثلاثة مراكز غسيل كلى: في مستشفى الجمهورية ومركز عبود ومركز ثالث في مستشفى الصداقة.
لكن مركز مستشفى الجمهورية يظل الوحيد القادر على العمل بطاقة وبجهد مضاعفين، وهو جهد يضاعف المشاكل المتعلقة بمرضى الفشل الكلوي.
*مرضى الريف يعانون
وبحسب المسئولة المباشرة عن المركز الدكتورة نبيهة تقول: «سبب وفاة أغلب مرضى الفشل من الأرياف يعود إلى عدم مقدرتهم على الوصول إلى المدينة في المواعد المحددة».
ومضت في حديثها بصوت مبحوح: «هذه مأساة غياب مراكز الغسيل في القرى والمحافظات التي من شأنها أن تخفف العبء عن المريض وعنا».
مدير مستشفى الجمهورية، وهو أحد أبرز الكوادر الطبية في البلاد، يقول: «هناك جهات أخرى تبحث عن الربح من بوابة مرضى الغسيل الكلوي، ليتسنى لها نهب المال العام المخصص لمرضى الفشل، ليحول إلى قنوات أخرى ليس لها علاقة بالأمر، ومن هنا نناشد الحكومة أن تحافظ على المخصصات العامة لمرضى الفشل الكلوي رغم العجز».
لا تنتهي المأساة هنا لكن ثمة فصولا أخرى من المعاناة تبدأ فيما بعد، والمشاكل تستمر في ظل غياب الحلول الجذرية، ووحدهم المرضى من يدفعون ضريبة المرض من عداد حياتهم.
* بالتزامن مع (موقع البعد الرابع)
تقرير/ نادر الصوفي

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى