«الأيام» في مستشفى الأمراض النفسية والعصبية في عدن (2 - 2) في البلد المضطرب.. المرضى النفسيون آخر الاهتمامات الحكومية

> تحقيق/ علي راوح

> يعاني مستشفى الأمراض النفسية والعصبية في محافظة عدن من نقص كبير في الكادر الطبي، هذا بالإضافة إلى شحة الميزانية، والمستشفى العريق الذي تتوافد إليه حالات مرضية من المحافظات المجاورة بات بحاجة للدعم أكثر من أي وقت مضى، وفيما يتناقص الدعم الحكومي تبدو المعادلة مختلة بالتوازي مع تزايد أعداد المرضى نتيجة الأزمات المتتالية التي تلاحق سكان البلد الفقير.
*موازنة شحيحة
مع أن المستشفى العريق يغطي عمله في عدن والمحافظات المجاورة لها، إلا أن ميزانيته التشغيلية لا تزيد عن (41) مليونا و(880) ألف ريال سنويا، بواقع (5) ملايين شهريا دونما أي إيرادات إضافية، بحسب د. خالد سلامي، وهو أحد المدراء السابقين لمستشفى الأمراض النفسية في عدن.
والمستشفى، الذي لا يتجاوز عدد الأطباء فيه 4 أطباء عموم ممارسين في المشفى، لا يعمل بلائحة مساهمة المجتمع، وفق توجيهات عليا لتقديم الخدمات الإنسانية مجانا.
يقول د. سلامي: «لدينا طبيبان حديثا التخرج، و(3) اختصاصيين نفسيين إكلينيكيين، فيما يبلغ عدد الكادر التمريضي (103) ممرضين وممرضات، بما فيهم الكوادر القيادية، لكن العدد الفعلي العامل هو (80) ممرضاً وممرضة، بقية العدد منهم من يعاني من أمراض عقلية، وآخرون مفرغون للعمل في مرافق صحية أخرى، وهناك كبار في السن يعانون من أمراض عضوية مزمنة، وبالتالي فإن الطاقم التمريضي الفعلي يعمل فوق طاقته، مع أنهم هم الوحيدون الذين لا يستلمون حوافز تشجيعية».
وأضاف: «إن ميزانية المستشفى لم تُرفع كما ضاعفت ميزانية جميع المستشفيات، وهذا يتنافى مع أبسط المقاييس العلمية والإنسانية والإدارية».
*مقترحات تتطلب التفعيل والمشاركة
وقال د. سلامي: «إنهم كانوا تقدموا بعديد مقترحات، لمعالجة مشكلة انتشار المرضى النفسيين في المدينة، إلى الجهات المختصة»، مؤكدا «هؤلاء باتوا يشكلون خطرا على أنفسهم وعلى الآخرين».
وأردف: «وفيما يتعلق بالمرضى المزمنين المتجولين في الشوارع، وكذا المرضى ذوي القضايا الجنائية، كنا تقدمنا بعديد مقترحات لمعالجة مشكلتهم، وأوضحنا بأن هذه المشكلات لا يمكن حلها من طرف واحد، وإنما تتعلق بعدة جهات، والمعالجة يجب أن تكون تكاملية تشترك فيها الصحة والشئون الاجتماعية والأجهزة الأمنية والقضاء، إلى جانب ذوي العلاقة في المجلس المحلي وكذلك المنظمات الخيرية والإنسانية».

ويقول سلامي: «إن حالات حجز المرضى المزمنين والجنائيين في المستشفى بأمر أمني أو قضائي وعدم إخراجهم يعد إجراء خاطئا»، مضيفا: «المريض لا يجب حجزه إلا لفترة مؤقتة إذا كان يشكل خطورة على نفسه وعلى الآخرين، يجب أن يحال إلى مركز إيواء متخصص، لإعادة تأهيله حرفياً، حتى يتمكن من الاستقرار النفسي والاجتماعي والمعيشي، وهذا ما تقوم به الدول المتقدمة».
في الصدد ذاته قال سلامي: «إنه من المهم وضع إستراتيجية شاملة واضحة المعالم تشترك فيها الجهات ذات العلاقة، بغية إعادة ترتيب وضع المرضى وفتح مراكز إيواء وإعادة تأهليهم».
وأضاف: «إنه لم يعد مجديا علمياً بناء مستشفيات ضخمة ومكلفة في مختلف المحافظات لإيواء المرضى النفسيين في ظل غياب إستراتيجية واضحة تجاه هؤلاء المرضى واحتوائهم».
من جانبه قال د. أحمد المجرشي، وهو أستاذ العلاج النفسي المشارك في جامعة عدن: «المرض النفسي هو عبارة عن خلل وظيفي في الشخصية يظهر على شكل أعراض، ويؤثر بشكل واضح على التفكير، والمزاج، والسلوك».
ويبدو الفرق بين المرض النفسي والمرض العقلي منعكسا على فرق آخر في مهام الطبيب النفسي والمعالج النفسي، وفي هذا الإطار يقول الدكتور المجرشي: «هناك فرق، والطيف من الأمراض النفسية واسع، والذي كان يطلق عليه اسم العصاب، وحديثاً زملة القلق، يتسم بوجود صراعات داخلية وأعراض مختلفة، تؤثر في حياة المصاب اليومية وعلاقاته مع الآخرين، وتجعله غير قادر على الاستمرار والإنتاج كما ينبغي، ويدرك المصاب أنه يعاني من اضطرابات نفسية، ويشعر بأنه مختلف عن الآخرين وعلى غير طبيعته المألوفة، لكن في نفس الوقت يتمكن من متابعة أعماله المهنية وتظل شخصيته متكاملة ومتماسكة».
وقال المجرشي: «إن هناك أمراضا أخرى نفسية المنشأ، لكن ليس لها أسباب عضوية، بخلاف الاضطرابات العقلية، والتي تعود أسبابها في الغالب لمشاكل عضوية».
وأضاف: هذه الأمراض أكثر وضوحاً بمظاهرها أو أعراضها غير الطبيعية، فالمصاب بالذهان مثل الفصام، لا يعود يرى الحياة كما هي على حقيقتها، وصلته بالعالم تضطرب، ويتغير وجدانه، ويتشوش محتوى تفكيره وأسلوب تعبيره، وقد يصاب المريض بهلاوس سمعية أو بصرية، وقد يصاب بظلالات وأوهام، وهي عبارة عن اعتقادات خاطئة، وغير منطقية راسخة في ذهنه، ولا يرغب في تغييرها.
أما بالنسبة للفرق بين الطبيب النفسي والمعالج النفسي فالأول الأساس في دراسته الطب البشري، لكنه لاحقا يتخصص في الطب النفسي، وأبرز ما يقوم به هو علاج الأعراض، أما بإزالتها أو التخفيف من حدتها على الأقل عبر استخدام العقاقير الدوائية، هذا بالإضافة إلى اهتمامه بالفحوصات المخبرية والأشعة والتخطيط للدماغ وأمور أخرى.

لكن المعالج النفسي هو الدارس لعلم النفس، وبعد ذلك يتخصص في المجال إلى أن يتحصل على درجة الدكتوراه في علم النفس الإكلينيكي، لكنه يعتمد على المقابلات متنوعة الأهداف التي تبدأ بإعداد نفسه أولا، ومريضه ثانيا، بعد ذلك تبدأ المقابلات مع المرضى التي تتطلب أن يبحث المعالج فيها أكبر قدر من المعلومات التي يقوم بتفسيرها ومعالجتها إلى أن يتخذ القرار في العلاج.
وتابع المجرشي حديثه لـ«الأيام» قائلا: «الأطباء يعالجون المرض، والمعالج النفسي يعالج المريض، بل ومحيطه أيضا، لهذا تتشكل علاقة قوية بين المريض والمعالج النفسي، ولهذا نحن لا نسمي هذا الشخص مريضا بل صرنا نطلق عليه عميلا وصديقا».
وقال: «ثمة شيء مشترك بين الطبيب والمعالج، فكلاهما يجب أن يقضيا فترة زمنية في المستشفيات، أو المراكز والعيادات التي يتم فيها علاج الأمراض النفسية والعقلية».
ويمضي المجرشي قائلا: «بات من المتفق عليه حاليا أن هذه الأمراض، وخصوصاً العقلية، تحدث نتيجة تداخل عدد من العوامل أهمها: الاستعداد الجيني الوراثي، مراحل النمو في الطفولة، والعوامل النفسية والأسرية والاجتماعية، وضغوطات الحياة والاستعداد الفسيولوجي للجهاز العصبي، وهناك أسباب وراثية وأخرى بيئية».
وعن الاختلافات في تشخيص الأمراض النفسية وغيرها من الأمراض العضوية الأخرى يقول: «نحن وشركاؤنا من الأطباء النفسانيين تشخيصنا اولاً يقوم على تقسيم الامراض إلى مجموعات بحسب الاعراض لا بحسب الاسباب، وذلك لأن اسباب الأمراض النفسية غير معروفة بالكامل، فتصنيف الامراض يبدو اكثر استقرارا في فروع الطب الأخرى (كأمراض القلب مثلاً) لأن الكثير من اسباب الامراض العضوية معروفة، وبالتالي يمكن تقسيم هذه الامراض إلى مجموعات بحسب أسبابها، أما تقسيم الامراض في الطب النفسي والعلاج النفسي فمبني على الاعراض، حيث ان كل مجموعة من الامراض لها اعراض وسمات مشتركة».
*خطوات للحد من المرض
د. أفراح محمد هواش، وهي ماجستير صحة نفسية ومحاضرة للمواد المرتبطة بالعلوم النفسية في معهد أمين ناشر للعلوم الصحية، تقول: «تتحدد الأمراض النفسية ما بين امراض عصابية كالقلق العام، والمخاوف بأنواعها، والوسواس القهري، والهستيريا، والاكتئاب واضطرابات الشخصية والسلوكية وامراض دهانية تتعدد ما بين دهانات عضوية اي ذات اسباب ترجع لأحد اعضاء جسم الانسان، وهي في حدوثها ترتبط بأجهزة جسم الانسان، كالجهاز العصبي والتنفسي والهضمي والقلب، ودهانات غير عضوية (وظيفية) غير معلومة السبب العضوي لحدوثها، وانما لمجموعة من الاسباب، المتداخلة فيما بينها، مثل الاسباب الاجتماعية والنفسية بالدرجة الاولى والوراثية والوظيفية لأجهزه الجسم بالدرجة الثانية مثل حالة الفصام والدهان الوجداني بأنواعها المختلفة».
وتضيف: «إن هذه الأمراض تتشارك في جملة من الاعراض المرضية الدالة عليها، وهذا أدى إلى وجود الكثير من الاطباء النفسيين الذين باتوا لا يكتبون على الوصفة الطبية لتشخيص الحالة المرضية، لكنهم يكتفون بكتابة الوصفة الدوائية المعالجة للعرض المرضي، على اعتبار عدم وجود اختلاف بين اعراض النفسية والدهانية في النوع، وإنما في درجة العرض المرضي فقط».

و مع تواصل الصراع المستعر في البلاد، الذي كان خلف مشاكل أمنية ومصاعب معيشية هائلة على المواطن، باتت الامراض النفسية تنتشر على نطاق متصاعد، وتعتقد هواش أنه ينبغي القيام بخطوات لخصتها في ثلاث نقاط، قالت إن من شأنها الحد من انتشار الامراض النفسية.
1ـ نشر الوعي الثقافي بين الناس بأسلوب مبسط وجذاب، عبر الاعتماد على الرسوم الكرتونية، التي يوضح فيها كيفية الاصابة بالمرض النفسي، بحيث يتم التركيز في كل نشره اعلامية على سبب واحد فقط، ويبدأ فيه توضيح كيفية تأثيره على الفرد باإحداث الامراض النفسية، وبالتالي يجد المتلقي بذلك التأثير المرجو له من هذه النشرة الاعلامية.
2 ـ فتح مراكز الصحة النفسية في المجمعات الصحية بحدود مركز واحد على الاقل في كل مديرية، لتعمل على اكتشاف وعلاج المبكر للحالات المرضية، الاعراض المرضية للمرض النفسي لا تظهر بشكلها الصريح في يوم وليلة، لكنه يبدأ في البروز شيئا فشيئا الى ان يصبح مشكلة كبيرة تهدد سلامة وأمن الاسرة في المقام الاول وللمجتمع ثانيا، وبالتالي فإن تقديم الخدمات الطبية العلاجية عبر هذه المراكز بشكل مبكر يقل من خطورة المضطربين الدهانيين، كما انها توفر على المجتمع الكلفة الاقتصادية الكبيرة المرتبطة بالمرض الدهاني، بدءا من صرف مرتب لموظف غير قادر على أداء مهامه الوظيفية، وصولا الى توفير الخدمات الدوائية الطبية للمستشفيات النفسية والعصبية.
3 ـ تقديم الخدمات الطبية المرتبطة بالمرضى النفسانيين بشكل منفصل عن مكان تقديم الخدمات الطبية للمرضى الدهانيين.
وتقول د. أفراح هواش: «إن احتواء المرضى النفسيين، والمختلين عقلياً المنتشرين في الشوارع، يكمن في قيام الأجهزة التنفيذية من رجال الشرطة بنقل وأخذ كل مريض ممن باتوا ينتشرون بمحاذاة وقارعة الطريق ممن تظهر عليهم علامات الاصابة بالمرض النفسي أو الاختلال العقلي وايداعه في مستشفى الامراض النفسية والعصبية لتلقي العلاج اللازم الذي يلعب دورا مساعدا في إعادة تأهيل المريض نفسياً وعقلياً، والعودة للعيش بشكل طبيعي مع افراد أسرته ومجتمعه».
وأضافت هذه المسئولية تقع على عاتق جهات ذات الاختصاص وايضا على المجتمع والاسرة «المسئولية لا تقع كاملة على المستشفى او الشرطة».
*بحاجة للدعم
وتمضي هواش قائلة: «المستشفى مع حجمه الكبير الذي يستوعب اكثر من (200) سرير، وهو الوحيد من نوعه في عموم البلاد الذي يستقبل كافة الحالات، مع هذا ميزانيته الشهرية لا تتجاوز مليون ريال، في حين أن هناك مستشفيات اقل حجماً وسعة وتغطية تصل ميزانيتها لأكثر من (5.2) مليون ريال، المستشفى مرجعياً يستقبل كافة الحالات من مختلف محافظات البلاد، ويستقبل حالات متنوعة، والى جانب استقبالنا لحالات أمراض الدهانية نستقبل ايضا حالات العصابية والصرع، والاطفال المتخلفين عقلياً، وحالات الجهاز العصبي، وهناك حالات عادة ما يتطلب بقاؤها في المستشفى مثل حالات الاصابة بالدهان او ما نطلق عليه بالمرض العقلي، وهي ما بين الفصام والدهان الوجداني، وتتوزع بين الرجال والنساء، وترد إلينا من كافة المحافظات، لهذا المستشفى بحاجة لوقفة مسئولة من قبل الجهات ذات العلاقة لدعمه بهدف استمرار أداء دوره تجاه المجتمع».
*الأدوية ليست متوفرة
في السياق قالت د. فوزية باشعيب: «نقوم باستقبال الحالات النفسية والعصبية، ومعظمها حالات الدهانية، او ما يسمى بالفصام والصرع، ومهمتنا تشخيص المرضى وكتابة العلاج اللازم، لكن تبرز اشكالية كبيرة متمثلة بعدم توفير الادوية».
وتتابع باشعيب حديثها قائلة: «أمراض الفصام والصرع تحتاج لعلاج طويل الأمد، نجد معظم المرضى يتعرضون للاشكالية، وخاصة الذين ليس بمقدورهم توفير الادوية، نتيجة التكلفة العالية، والاهتمام والعناية بالجانب النفسي لأفراد المجتمع أمر مهم».
ويعاني المستشفى كثيراً جراء النواقص الضرورية التي باتت غائبة، بحسب د.فوزية باشعيب التي قالت: «هذه مسائل تتطلب إمكانيات كبيرة ودعم ومساهمة من جهات ذات العلاقة، كما انها تحتاج الى مشاركة مجتمعية واهتمام وتشجيع كبير للكادر الكبير العامل في هذا المجال، الذي يعاني نقصا في الأطباء المتخصصين، نتيجة غياب الرغبة في الانضمام للمجال».
تحقيق/ علي راوح

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى