> عبدان دُهيس
لم تستقر الأوضاع - وخاصة السياسية التي تنعكس على كل مجالات الحياة - في هذه البلاد (شمال وجنوب) منذ أن تحررا من الإمامة والاستعمار، وحتى اللحظة، فقد شهد (الشمال) حروباً مدمرة كثيرة، منها ما عرفت بحرب (الجمهوريين والملكيين)، والاحتراب بين المعارضة اليمنية (الجبهة الوطنية) - وهي خليط من الأحزاب القومية واليسارية - وبين (نظام صالح) البوليسي الدموي، الذي امتدت فترته لأكثر من (ثلاثة عقود) من الزمان. وممن الغرابات في هذه الحروب، أن (الشقيقة السعودية) كانت تقف في صف الملكيين ضد الجمهوريين، الذين كانوا يحظون بدعم مصر عبدالناصر، لكنها - أي السعودية - وهذا غريب أيضا، وقفت مع (نظام صالح) ضد (الجبهة الوطنية) التي كانت تتمسك بأن نجران وعسير وجيزان أراض يمنية، وكانت تريد تغيير نظام الحكم في الشمال، من (فردي عائلي) إلى نظام وطني ديمقراطي اشتراكي، يستلهم أهداف ثورة (26 سبتمبر)، ويكون قريبا من الجنوب، في توجهاته الفكرية والسياسية، ولكن جرى في النهر ما جرى من مياه، فلا الجبهة الوطنية انتصرت، ولا الوضع في الشمال استقر أو تغير، وهكذا هو الحال في (الجنوب الاشتراكي) الذي هو الآخر شهد حروباً قاتلة مع الشمال لمرتين في السبعينات، وثالثة - كانت مفصلية ومصيرية - في 1994، واحترابات اخرى متفرقة، مع ما كان يسمى بقوى (الثورة المضادة) التي نشأت بعد استقلال الجنوب، في 1967م، بدعم سعودي، وهي في الأصل كانت قوى جنوبية معارضة، نكلت بها الجبهة القومية، التي استلمت الحكم، وقبلها الاحتراب بين (القومية والتحرير) التي سبقت الاستقلال بأسابيع قليلة، وأيضا ما تلا مرحلة الاستقلال في السبعينات من حرب حدودية بين الجنوب والمملكة السعودية، ونتائجها معروفة للجميع، ورحم الله الشاعر الكبير علي مهدي الشنواح، صاحب القصيدة الشهيرة (سقط البلق سقط العميل المرتزق)، إلى جانب (الصراعات الدموية) الأخرى، في الداخل الجنوبي، التي لم يتعافَ منها لما يقرب من (ثلاثة عقود)، هي عمر جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية حتى إعلان (الوحدة المشؤومة) بين الجنوب والشمال بسبب هوى السلطة، وقلة النضوج السياسي لدى الحكام الذين وصلوا إلى (سدة الحكم)، عند استقلال 30 نوفمبر 1967م، قادمين من الريف إلى المدينة، وعلى ظهورهم السلاح، وتستحكم عقولهم عدم قابلية الآخر!!
إنها مسألة كبيرة، قد حلت بهذه البلاد شمال وجنوب.. وعلينا أن نعلم وأن نفهم، ومن خلال كل هذه الاحترابات والحروب، أننا كنا ومازلنا لسنا بمستقلين في قراراتنا السيادية حتى الآن، لا في (الشمال) الذي يتجه في سياسته للغرب، ولا في (الجنوب) الذي كان يتجة للشرق، وإننا مازلنا - رغم وطنية وعروبية ثورتي سبتمبر وأكتوبر - مرتهنين لغيرنا، من ذوي المال والنفوذ والقوة، ولا يمكن لنا أن ننفك من هذا الارتهان لتقرير مصيرنا بأنفسنا، وقد أثبتت كل الوقائع والمنعطفات التي شهدها (الشمال والجنوب) معاً على مدى ما يزيد عن (نصف قرن) صحة وصوابية ذلك، ولا ندري بعد هذا الارتهان ماذا تخبئ الاقدار لهذه البلاد ولهذا الشعب المكلوم، أخيراً أم شراً، والعياذ بالله..؟!
نحن أمة، بحسب ما أثبتت كل الوقائع والأحداث التي مرت بنا، نهوى التناحر والاحترابات فيما بيننا البين ولا نعشق السلام ولا نجنح للسلم مطلقاً إلا بإرادة غيرنا، ليس هناك شيء جميل قد تحقق خلال كل هذه المسيرة الطويلة، على مدى العقود الستة الماضية، يستحق أن نندبه ونبكيه أو نندم عليه، لأن هذا الشيء الجميل أصلاً لم يتحقق في هذه البلاد المحطمة والمحزونة إلا في الأحلام والخيال، فعلى ماذا الندم؟! فكل ما تحقق هو النكبات والحروب والأزمات والمآسي، فلو أحصينا كم من الضحايا سقطوا على مدى كل هذه الاحترابات سنجد أن عددهم ربما يفوق ضحايا الاحترابات الداخلية، التي تجري الآن في كل من العراق وسوريا وليبيا.
ياللعجب!.. لم يعد لدينا مقومات دولة، ولا أساس للتنمية، كل شيء مدمر، وكل ثرواتنا منهوبة أو معطلة، وحياة الناس بائسة ولم يقدم لنا الذين من حولنا أي شيء يجلب السعادة والطمأنينة والفرح، ولم يدعونا نستقر على حال! وهم أنفسهم أولئك اللاعبون - وما يزالون - في واجهة المشهد، وهذه هي المشكلة والمأساة بعينها، فهل نصحو ونتعظ ونستقل في قرارنا، خاصة السيادي؟، أظن ممكن ذلك قبل أن يلعنا التاريخ والأجيال الحاضرة والقادمة.. فإلى متى حرب؟ وإلى متى احترابات داخلية؟ ألم يحن الوقت للجنوح للسلام والوئام؟ ونسأل أنفسنا من يحترب ضد من؟ ولماذا الحرب من أساسها في هذه البلاد المنحوسة المتهالكة الفقيرة التعيسة المسروقة ثرواتها وتراثها وتاريخها؟! ألم نشاهد الذين من حولنا وهم في نعيم الحياة والملذات والأمن والأمان والاستقرار والسعادة والرخاء والرفاهية.. لقد حان الوقت ليقرر أهل هذه البلاد مصيرهم بأنفسهم.. نحن الآن في (الألفية الثالثة) من القرن الحادي والعشرين، وللأسف أننا مازلنا ممسكين بالبنادق والمدافع والرشاشات، ونقف على ظهور الدبابات، وخلف المتارس..
حان الوقت الأن للقاء القوى اليمنية المتصارعة.. حان وقت الحوار من أجل السلام ولصنع السلام الحقيقي، إنقاذا لكل الناس في الجنوب والشمال معاً، والحفاظ على ما تبقى في هذه البلاد، ولو قليل مما ينفع الناس حرصاً على ديمومة الحياة الآدمية، فالمبعوث الأممي إلى اليمن السيد مارتن جريفيثس لن يستطيع أن يحقق سلاماً لوحده، دون تعاون الجميع بإيجابية معه، ما لم سيكون مثل سابقيه (جمال بن عمر وولد الشيخ أحمد) في الفشل المحزن.
السلام - يا قوم - يصنعه المعنيون أنفسهم، متى ما وجدت النوايا الصادقة، قبل فوات الأوان، وحتى لا تعم الحرب كل البلاد، بأكثر شراسة وضراوة، وحينها لن يستطيع أي أحد أن يوقفها، وسيذهب حكام وسيأتي حكام، ولنا في الصومال والعراق وسوريا وليبيا عبرة.. اللهم أشهد.. اللهم اشهد!