شجرة«الأيام»

> عبود الشعبي

> احتفت مدينة عدن بوصول مراكب العطور القادمة من بلاد الهند.. كان أجمل سفر وأحلى وصال!
هذا الثغر المحروس بالجبل مابرح يصنع الحب منذ زمن، ويغني «يا مركب البندر»!..

الناس في هذه البقعة من الأرض ألِفوا حمل القلم.. امتشقوه مبكراً، وساروا على الدرب.. في ظاهرة نبوغ متفردة!!
لا شيء يمس الطوّاف لأرجاء المدينة غير مسيس عَرف العود.. وإلّا أفياء من برد السلام!
ثم يجيء يوم الثامن من آب، قبل ستون عاماً من الآن.. يُرى محمد علي باشراحيل «المؤسس» جالساً فوق كرسيه، يمسك بأنمُليه قلما، وبين جوانحه همّة تنطح الثريّا!
ليس أمامه على الطاولة عدا أوراق ودواة حبر وضوء المدينة..

كانت عدن في عالم الصحافة بارزة العنوان فائقة الألَق!
وفي ليالي السفر الطويل يشهد النجم الساري في السماء حركة المركب الساري في البحر، وبين المركب والنجم فضاء من كافور ومسك!
ثم ينهض العميد يضع «الغرس» قريباً من قلب المدينة.. شهد بذلك الموج والجبل والمنارة!
كان محمد علي باشراحيل - رحمه الله - بارعاً في اختيار نهج صحيفته.. دقيقاً في توصيف الوضع منذ البداية.

هو أيضاً يكتب برهافة قلب المثقف ولمعة عقل السياسي الجهبذ.
كتب ذات مساء كلاماً في السياسة معرِّفاً عن الاستقلال الذي ينشده أبناء الجنوب.

قال في «كلمة اليوم» في عدد «الأيام» رقم 1482 بتاريخ 14 نوفمبر 1963 (الشعب يريد استقلالاً من صنع يده وتقدير تفكيره.. استقلالاً لا يفرضه عليه حكامه بل يختارهم هو بنفسه في انتخابات عامة حرة ونزيهة)..
فيشهد الزمن قديمه وحديثه بحصافة الرجل وقدرته في سبك العبارة السياسية بدقة بالغة قلّ ما يصل إليها مثقف بدأ للتو مرحلة جديدة من مشواره الصحفي.

إنها شجرة «الأيام».. وهذا ظلها الممدود بحجم الوطن..
ثم يشهد الزمن أيضاً أن في ثقافة المدينة امتزج عطران.. عطر عود وعطر محبرة.. ليعلم الناس أن عدن هي من أعطى الجنوب هذا البهاء وضمخت جهاته الأربع بهذا الريح الزاكي!
ستون عاماً وأقلام هذه الشجرة تخط في درب الحقيقة، ما ضعفت لتهديد حاكم وقد لاقت.. وما استكانت لوعيد سلطان وقد نالت..!!

بل استعذب الأب المؤسس عذابات الطريق لتبليغ الرسالة الصحافية وفق النهج الذي ارتضاه لنفسه ورسمه لأولاده «هشام وتمام» من بعده..
ولما كان الغراس طيباً وفي بلد طيب، كبرت الشجرة، فثبت الأصل واستقام العمود وامتدت الفروع.. وصار يطير من كل غصن في الشجرة إصدار جديد من «الأيام» كالبلبل الشادي يذهب في الغبش محلقاً الفضاءات، فارداً جناحيه، يقبض ويبسط وقد أسمع الوجود تغريدته والكون إنشاده!!

وفي رحلة الستين رحل عنا أيضاً هشام ــ رحمه الله ــ الذي آذاه صلف الحاكم المستبد، وهو يقبض على العهد ويمضي في طريق الأب المؤسس..
ويجيء من بعده «تمام» ومعه أبناء شقيقه الراحل باشراحيل وهاني ومحمد، كذا:

الكفوف في الكفوف
فاشهدوا عهودنا
والثبات في الصفوف
والمضاء والفناء
هكذا ستون عاماً وما جفّت أغصان شجرة «الأيام» ولا كَلّ جناح طائرها المغرِّد.. ومازال السير في الطريق طويلاً.. يهوِّن من مشاقّه المحبّون!!​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى