عدن الحرية الثقافية والتقهقر المدني تحت مجهر الشميري

> صدام الزيدي*

>
ضمن إصدارات «ثقافة للنشر والتوزيع» في مدينة أبوظبي، صدر حديثًا، للكاتب اليمني سمير عبد الرحمن هائل الشميري، البروفسور في علم الاجتماع، كتاب بعنوان «عدن الحرية الثقافية والتقهقر المدني»، وهو الكتاب رقم 13 له، علاوة على أبحاث وكتابات محكمة نشرت هنا وهناك على مدى أكثر من عقدين من الزمن.

يقدم الكتاب صورة بانورامية لتدهور الحياة المدنية في مدينة عدن بوقائع وأحداث حية، حين يشير الكاتب، وهو ابن عدن ورئيس قسم علم الاجتماع في جامعتها لسنوات مضت، إلى أنه: «أصبحت حياتنا مدبوغة بالفوضى والتفلت والنهب والفاقة والتوتر والبلوى وانكسار ميزان التوازن الحياتي الذي يصبّ في خانة الشر والاقتتال والإرهاب والدم المسفوح والصعود الفوضوي للتشدد والتكفير والتعصب والتسافل السلوكي».

وعن حياة عدن المدنية التي باتت متدهورة اليوم، يذهب الكاتب إلى القول: «لقد انقلبت الحياة عاليها بسافلها، وصار الناس يمشون بغير هدى، بلا أمن ولا أمان، وتساوق مع ذلك سقوط مجلجل لمؤسسات الدولة والأنظمة والقوانين التي كانت أساسًا متينًا للحرية والنهضة المادية والعقلية وللسكينة والوئام المدني».

غرس شتلات المعرفة
ماذا جرى في هذه المدينة العريقة بعد أن كانت منارًا للحرية والكاتب والتحديث؟ ما التحولات القاسية التي حدثت في مدينة عدن؟ ما طبيعة التقهقر المدني الذي شهدته مدينة عدن؟ أسئلة ساخنة يتناولها البروفسور الشميري، وهي أسئلة: «تهز كياننا وتقرع رؤوسنا في قلب الليل وخبيص النهار، جعلتنا نجتهد ونقرأ الواقع ونقلب الأفكار»، بحسب الكاتب، الذي يضيف: «لقد حاولنا قدر الإمكان الإجابة عن هذه الأسئلة ولو بصورة مبتسرة قد لا تشفي غليل المتعطشين للعلم والمعرفة، فغايتنا التنوير وغرس شتلات المعرفة وتفجير حوار هادئ غير متنطع يحتكم للعقل والبصيرة ويدفع قدمًا بوعي التفسير والتحليل والقراءة النقدية والتأويلية إلى الأمام للوصول إلى الحقيقة التي قال عنها الكاتب والمسرحي الإنكليزي الشهير وليم شكسبير إن: «الحقيقة يمكن أن تدفن ولكنها لا تموت».

بين دفتي الكتاب قراءة مفعمة بالعمق تترصد حال مدينة عدن، وما حل بها من خراب مادي ومعنوي في حقبة حالكة الظلام يحددها الكاتب في الفترة 1994-2016: «ففي هذه الحقبة الحالكة، تم تكسير الهياكل والمؤسسات والنظام القيمي والتوازن الاجتماعي في المدينة، وامتدت يد الباطل لتحطيم الإنسان عماد الحضارة والثقافة والتمدن، وأدخلته في ظلمات الفوضى والفساد والبؤس وفي أتون التيارات المتلاطمة وصناعة الانقسامات والتشرذمات، متكئة على سياسة النهب وتجريف خيرات المجتمع من قبل صُنّاع الخراب الذين كسروا أضلاع المجتمع وصمود وكبرياء الناس وأسرفوا في تخريب العمران».

في الفصل الأول يسلط الكتاب الضوء على عدن كمدينة حضارية تفردت بالحرية والتمدن والتعددية الثقافية والاجتماعية وسكنت جنباتها قيم التسامح الفكري والعقائدي، ويتوج هذا الفصل بعرض لأهم ملامح السقوط والانهيار للحياة المدنية في المدينة. وبعين شديدة الدقة وبحس بحثي لاقط للواقع وبإشارات مكثفة، يقدم في الفصل الثاني مشاهدات بانورامية من إيقاعات الانهيار والخراب والهزات المؤلمة في صفحات الحياة اليومية لمدينة عدن منذ يوليو 1994 لغاية يونيو 2016م، وهي الحياة التي باتت مدبوغة بالعسر والفاقة والكرب وبخليط من الرعب والمرارة والتيه والحيرة والبوار.

ويعنى الكتاب بتسجيل وتوثيق ملامح الانهيار والدمار الشنيع لمدينة عدن، مبرزًا خطورة تهديم مداميك وأسس دولة الحق والقانون، الذي شكل أساسًا متينًا للدمار والخراب المجتمعي وتسويق الفوضى والرذيلة والفساد وانهيار شروط الأمن والولوج في حياة غوغائية زلزلت كيان الإنسان في التراب الوطني وهيّجت الغرائز والشهوات ونمّت روح العداء والتطاحنات والاحترابات والفتن العمياء وفعّلت النزعات العصبوية الضيقة والهوس اللاعقلاني في إطار تفكيك اللُحمة الاجتماعية والإنسانية للمجتمع.
وبلغة علمية يسرد الكاتب حقائق وأطروحات تساعده على الإجابة عن الأسئلة الملحة التي تدقّ أبوابنا في هذا الزمن القاحل والبليد الذي يتم فيه قلب الحقائق بشعارات مطاطية ملتهبة وبلغة خطابية متشنجة مبنية على الباطل والفهلوة والخيال المريض المتملّص من منهج الحق والفضيلة والانصاف.

يبدأ الكتاب الصادر في إبريل 2018 بمقدمة متبوعة بفصل أول جاء تحت عنوان «من النماء والتسامح إلى الفوضى والانهيار»، وهو عبارة عن توطئة تتبعها أربعة أبواب فرعية: عدن عنوان للحداثة والتمدن، وعدن والحرية الثقافية، والفتوى الظالمة، وتحطيم ملامح الحياة المدنية. وتنتهي هذه التفرعات بخلاصة شبه بحثية، بينما الفصل الثاني والأخير يقدم «مشاهد بانورامية من إيقاع الحياة اليومية في مدينة عدن» (يوليو 1994م – يونيو 2016م)، ثم مدخل تناول الحقبة الزمنية ذاتها، مختتمًا بقائمة بيبليوجرافية.

من أجل السلام والسكينة والوئام المدني
ويشير الشميري إلى أن «الغاية من تأليف كتاب عدن الحرية الثقافية والتقهقر المدني ليس لرفع منسوب الكره الاجتماعي ولا لتصعيد النعرات العصبوية ولا لترسيخ أقدام الفوضى والفساد والبلطجة والاحترابات والعنف السوقي والهوس العنصري، وإنما من أجل السلام والسكينة والوئام المدني والعدالة والإنصاف والثقافة الحضرية والانفتاح والتلاقح والتعايش والتسامح والتعدد الثقافي والتفاعل الفيزيقي الاجتماعي وثقافة العيش المشترك وبناء دولة الحق والقانون واحترام آدمية الإنسان، ذلك أن عدن أخذت نصيبها الوافر من القسوة والحقد والنهب والتدمير لكل ما هو جميل وإنساني وتم تحطيم المدينة ببشرها وجغرافيتها ومؤسساتها وأنظمتها وقوانينها وقيمها الأخلاقية وتراثها الفكري ومخزونها الثقافي والروحي بصور وأساليب شتى تم توضيحها في سياق الكتاب من زاويتين، أولاهما نظرية والثانية تطبيقية».
إنه كتاب ثري بمضمونه وملامحه وبتناغمه الدلالي والمعنوي، وطافح بكم هائل من الصور والوقائع والمشاهدات والمعطيات الكمية والكيفية والتحليلات الدقيقة، التي تبين حجم الخراب الذي حلّ بمدينة عدن والجنوب بوجه عام في سلسلة من الحلقات المترابطة.
نقلا عن المنبر العربي الثقافي َِ*

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى