غيّروا وجه التاريخ: ادوارد جنر.. مكتشف التطعيم ضد الجدري

> إعداد/ د. ياسر عمر الهتاري

>
بسببه أعلنت منظمة الصحة العالمية خلو كوكب الأرض من الجدري نهائياً

في 17 مايو 1749 ولد طفل أطلقوا عليه لاحقاً (أبو علم المناعة)، كان الابن الثامن من تسعة إخوة في منطقة بيركلي في إنجلترا، والده ستيفن جنر كان نائباً عن بيركلي في البرلمان، كان من عائلة ميسورة مادياً لهذا تحصل هذا الطفل على تعليم قوي أهّله ليكون طبيباً، أصبح لاحقاً الرجل الذي أنقذ معظم البشرية من أخطر أمراضها على الإطلاق، وهو مرض الجدري، وبسبب اكتشافاته الطبية أعلنت منظمة الصحة العالمية خلو العالم من مرض الجدري، إنه الطبيب الجراح ادوارد جنر.
إدوارد جينر يقوم بتطعيمه الأول - رسم اللوحة إرنست بورد (بدايات القرن العشرين)
إدوارد جينر يقوم بتطعيمه الأول - رسم اللوحة إرنست بورد (بدايات القرن العشرين)

أظهر ادوارد جنر منذ صغره اهتمامًا كبيرًا بالطبيعة والعلوم، وعندما كبر وبلغ الثامنة عشر درس الطب وتدرب على الجراحة ثم التشريح، وعندما بلغ الأربعينيات أصبح جراحاً معترف به، وتأثر بما وجده حوله من آلاف الحالات المستعصية التي انتهت إلى العمى أو الموت أو التشوه الدائم للجسم نتيجة إصابتها بالجدري، وهو ما دفعه للتفكير في طريقة تخلص هؤلاء المساكين من معاناتهم من مرض الجدري، ما دفعه للتفكير بشكل مختلف وبَذْلِ كلَ جهد لإيجاد حل لوقف موت البشر بهذا المرض، وهو ما كان له بالفعل.
لقاح الجدري المخفف
لقاح الجدري المخفف

لم يكن الجدري محصوراً بأوروبا فحسب؛ بل تفشى في أمريكا الشمالية والهند والصين وعدة أجزاء من العالم، وفي كل مكان ظهر به كان الأطفال هم الضحية بأغلبية عظمى، لقد لاحظ الناس جميعهم أن أولئك الأشخاص الذين نجوا من الموت بعد إصابتهم بالمرض أصبح لديهم مناعة ولم يظهر المرض عليهم ثانيةً، أدت هذه الملاحظة إلى تلقيح الأشخاص الأصحاء بمادة مأخوذة من جسم شخص أصيب بإصابة طفيفة بهذا المرض، وهي الطريقة التي عرفت لاحقاً باسم (التجدير)، ولكنها كانت تؤدي في معظم حالاتها إلى عدم السيطرة على المرض في جسم الشخص المحقون فتؤدي إما إلى إصابته فعلياً بالجدري أو بتشوهات جلدية بالبثور مدى الحياة، لقد وصلت هذه الطريقة إلى إنكلترا قبل ولادة ادوارد جنر بعدة سنوات، حتى هو نفسه تم حقنه بطريقة (التجدير) عندما كان في الثامنة من عمره للوقاية من الجدري، ولحسن حظ البشرية بأنه لم يمت بهذه الحقنة.
منزل إدوارد جينر الذي شهد أول عملية تطعيم في تاريخ البشر
منزل إدوارد جينر الذي شهد أول عملية تطعيم في تاريخ البشر

تنبه ادوارد جنر إلى بعض المعلومات البسيطة من المزارعين وبائعات الألبان، حيث كان يشاع حينها بينهم بأن من يصاب بجدري البقر لا يُصاب بجدري الإنسان، فأخذ ادوارد جنر هذه المعلومات على محمل الجد، وهي المعلومة التي كان يعتقدها معظم الناس بما فيهم الأطباء حينها أنها مجرد أوهام ومعتقدات خاطئة، فأدرك (جنر) أنه لو صح ما تقوله بائعات الألبان، فإن تلقيح الإنسان بجدري البقر يعد طريقة مأمونة لمناعتهم ضد الجدري الذي يصيب الإنسان.
تمثال لادواردر جنر أثناء تطعيمه لأبنه ضد الجدري للنحات الايطالي - جوليو مونتيفيردي ، روما - 1873
تمثال لادواردر جنر أثناء تطعيمه لأبنه ضد الجدري للنحات الايطالي - جوليو مونتيفيردي ، روما - 1873

بدأ ادوارد جنر أبحاثه بأن سافر إلى المناطق المجاورة للبحث عن أشخاص أصيبوا بجدري البقر، وبالفعل وجدهم، وعند سؤالهم عمَّا إذا كانوا أصيبوا بعد ذلك بمرض الجدري، فأتت الإجابات كلها بالنفي، وهو الأمر الذي أعطى له الأمل بأن هناك شيئاً يمكن أن يتحقق إن هو بدأ بأبحاثه حول هذه المعلومات التي تحقق منها شخصياً، ومن أشخاص من مناطق مختلفة ولا تربطهم أي صلة يمكن أن تكون هي التي أدت إلى نفس معلوماتهم، فتيقن ادوارد جنر في أن السر يكمن في البقرة التي يمكن أن تعطي الدواء بالإضافة إلى حليبها، لكن كيف يختبر ذلك؟ ومن هذا الأبله الذي سيقبل بأن يحقنه ادوارد جنر بمرض جدري البقر وهم الخائفون أصلاً من جدري الإنسان؟!
ادوارد جنر
ادوارد جنر

لكن لم يكن هناك من حل آخر، فلابد من حقن شخص بجدري البقر ومن ثَم إعادة اختباره وحقنه بالجدري لملاحظة النتائج والتأكد من أنه أخذ مناعة كاملة ضده، وهو أمر محفوف بالمغامرة الخطرة، إذ أن المقامرة هنا ليست على لعبة الورق أو الرماية، بل هي مغامرة على حياة إنسان سيقوم ادوارد بحقنه بالجدري.
لا أحد يعرف من هي الآنسة (سارة نيلمس) إلا أناس قليلون بعدد الأصابع حول العالم سمع بها، إنها بائعة اللبن المصابة بجدري البقر التي عندما قابلها ادوارد قالت له بكل فخر وطمأنينة بأنها نتيجة لذلك لن تصاب بجدري الإنسان، فأخذ ادوارد جنر عينات من صديدها وقيحها، وحقنها في جسم طفل عمره ثمان سنوات هو (جيمس فيبس) في مغامرة سيسجلها له التاريخ، لم يصب الطفل سوى بحمى خفيفة، وبعد عدة أيام حقنه بمرض الجدري العادي، فلم يصب الطفل بالجدري ولم تظهر أي من أعراضه عليه، ياللهول! إن هذا الطفل قد أصبح بالفعل ملقحاً ضد الجدري، هذا الطفل يجب أيضاً أن يدخل التاريخ، فهو ابن البستاني الذي يعمل لدى ادوارد ولا يعرف أحد حتى اليوم كيف تمكن ادوارد جنر من إقناع والد الطفل حتى يقبل بالتجريب على ابنه، وإن كانت بعض من المصادر تقول إن التجربة الأولى كانت لشاب في الثامنة عشر، إلا أن هذه المصادر لم تحدد من هو هذا الشاب، فبقت هذه رواية غير مؤكدة.
لم يتقاضَ سنتا واحدا مع إمكانه أن يكون من أغنى رجالات عصره
بعد هذه المغامرة الناجحة أصدر ادوارد جنر وعلى نفقته الخاصة كتاب (البحث في أسباب الإصابة والوقاية من الجدري)، وكان هذا الكتاب مسؤولاً وحده عن تطور اللقاح ضد الجدري، ونشر بعدها خمسة أبحاث مطولة ومفصلة تمت ترجمتها إلى مختلف لغات العالم، وكانت سبباً في انتشار التلقيح ضد الجدري في أوروبا كلها وإجبارياً في الجيش والبحرية، ومن ثم أصبح أسلوباً عالمياً معترف به، وقدم ادوارد عمله هذا هدية للبشرية، فهو لم يتقاضَ سنتاً واحداً من أي شخص لقحه، وهو الذي كان بإمكانه أن يكون من أغنى رجالات عصره، وعندما علم البرلمان الإنجليزي بذلك قرر منحه مكافأة قدرها ثلاثون ألف جنيه على دفعتين، أنفق معظمها في أبحاثه ولقاحاته المجانية.
رسم ساخر في عام 1802م، يُصور إدوارد جينر يقوم بتطعيم الناس بمرض جدري البقر، فتخرج الابقار من اجسادهم!
رسم ساخر في عام 1802م، يُصور إدوارد جينر يقوم بتطعيم الناس بمرض جدري البقر، فتخرج الابقار من اجسادهم!

لا تزال حتى اليوم هناك مخزونات من فيروس الجدري في العديد من المختبرات، وأكدت منظمة الصحة العالمية أن المخزونات المعروفة من فيروس الجدري تم تدميرها أو نقلها إلى مختبرات أكثر أمناً، فبحلول عام 1979 كان من المعروف أن أربعة مختبرات فقط تمتلك فيروس الجدري، تم نقلها إلى مستشفى سانت ماري بلندن، ثم إلى مرافق أكثر أمناً في الولايات المتحدة في مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها في أتلانتا، ومركز أبحاث علم الفيروسات والتكنولوجيا الحيوية في كولتسوفو في روسيا.

والآن تم استئصال الجدري من العالم نهائياً وتمت معرفة ذلك من خلال بحث دولي ضخم عن التفشي الوبائي، حيث ظهرت الحالات الأخيرة في البرازيل 1971، وإندونيسيا 1972، وفي بنغلاديش في 1975، والحالة الأخير كانت في الصومال في 1977، وأصدرت منظمة الصحة العالمية شهادة استئصال مرض الجدري من كوكب الأرض، وهكذا يجب ألا ننسى كيف كان مرض الجدري مخيفاً وشديد العدوى لدرجة أن أغلبية لا بأس بها من سكان أوروبا كانت تصاب بهذا المرض و10 - 20 في المائة من المصابين كانوا يموتون بسببه، بينما كان هذا المرض يترك آثاراً تشويهية على وجوه 10 - 15 بالمائة من الذين ينجون منه، فأصبح ادوارد جنر بأعماله واحداً ممن غيروا وجه التاريخ.. ووجه البشر أيضاً.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى