صندوق الحليب.. قصة قصيرة

> د. مصطفى عطية جمعة

>  النسمات الليلية تداعب شعورنا، وقد ملأنا الحارة ضجيجاً، فغدًا أول أيام رمضان، سنسهر للسحور، فقد قررنا جميعاً الصيام، وهكذا تقافزنا وركضنا وصرخنا طويلا، دون اعتراض يصلنا من وراء المشربيات في الطوابق العلوية لرجال يريدون النوم مبكراً، حتى يكدّوا لرزقهم مع إشراقة الصباح، أو نسوة يصرخن في عيالهن؛ ليخلدوا للنوم مع آبائهم.
سأصوم غدًا، وثوابي على الله، وسأسهر إلى ما بعد الفجر، حتى أقضي النهار نائماً، وأستيقظ لألحق بأبي في صلاة العصر. أعلم أن كثيرا من العيال يتظاهرون بالصوم، وبعضهم يتلوى أمامنا جوعا - كما يقول - في النهار، ويتحمل لهيب شمس يوليو وتجفيفها للحلوق، أملاً في رضا الله، ونحن نجادله أنه طلب لرضا الوالدين والأعمام.. ورغبة في "عيدية" سخية في أول أيام الفطر، وهكذا تتوزع أيامنا الرمضانية بين نوم وصخب، وصيام وفطر، وبطون تئن قبيل المغرب، ثم أفواه تركض للتمر والماء البارد والخشاف والمشمشية وأطباق الطعام عقب مدفع الإفطار. أمامنا ساعات على السحور، والأصوات تملأ سماء الحارة؛ "رمضان جانا. أهلا رمضان"، واصلنا لعبنا، فرحين أننا لن نحمل هذه السنة الفوانيس، فقد كبرنا عليها، وسنتركها - كما اتفقنا - للأصغر منا، يطوفون على البيوت، ويحصّلون النقود ويختلط غناؤهم "وحوي يا وحوي. إيوحة"، مع أغان تخرج من أجهزة الراديو مخرخشة الصوت.

عليّ أن أزاحم الناس لشراء الفول، سحورنا الليلة فول بالبيض والسمن البلدي، ستفوح رائحته من المطبخ قبل أن تضعه أمي على الطبلية، وسيهجم إخوتي عليه، ونترك ما عداه من جبن وحلاوة طحينية. كلها جافة كما أقول دوما. وقفت في الطابور أمام "قُرني" الفوّال، عليّ أن أصبر لأن فوله "كهرمان" كما يقولون، وإن كنت ألاحظ بُخل يده وهي تمتد لأعماق "القِدرة" لتغرف الحبّات الناضحة بالبخار، ثم تضعها في صحون الصاج.

حملت الصحن، فول صافٍ دون زيت أو طحينة، فقط يعتليه بعض الكمون والملح، استمتعت برائحته التي نفذت لأعماقي، تعيد لذاكرتي أشهر رمضان السابقة في سنوات عمري المعدودة، كلها سحور بفول ساخن، وأرغفة "مقمّرة".
توقفنا عن اللعب، لرؤيتنا دراجة يركبها عبد الله ابن "سنية " بائعة الكشري، وقد ربط على الحمّالة الحديدية الخلفية للدراجة صندوقاً خشبياً محكم الإغلاق. أشار للولد "حسين"، فأسرع فرحاً، ورفع صوته منادياً أمه، التي برز رأسها من الطابق الرابع، وقد أخفت نصف وجهها بطرحة. وقالت:
- سألقي "السّبَت" لكم.
دقائق، وتهادى السبت متدلياً بحبل، يتراقص مع اصطدامه بالجدار، حتى أمسكه حسين، وسرعان ما انفتح الصندوق، ورأينا - على أضواء الشارع - أطباقاً زجاجية صغيرة، بغطاء بلاستيكي، تستقر في قعر السبت، اجتهد عبد الله في تثبيتها بحشر أقمشة في جوانبها؛ كانت في السبت، وهو يردد أن نبتعد حتى لا ينسكب الحليب، استبقى "حسين" طبقاً له.، ثم صعد السبت متأنياً، حتى تلقفته أم حسين.

التففنا حول الطبق الزجاجي، وامتدت أصابعنا له، لحسنا مرات ومرات، حتى التمعت جوانب الطبق، إنه زبادي مسكّر، يختلف عن الزبادي لاذع الطعم الذي نشتريه من البقّال، وعندما سألنا عن سعره، كان أغلى أربع مرات من زبادي السلطانية البلاستيكية قال حسين: كل رمضان أبي يوصّي أم عبد الله لصنعه لنا، هذا سحورنا كل يوم.
تذكرتُ ففي كل عام كان أبو عبد الله يأتي بالصندوق، ولم نلق له بالاً، فقد كان عبوساً، سبّاباً للعيال، شتاماً لمن يعترضه، فلم يقترب أحد منه، يضع الزبادي، وينشغل بعدّ القروش قبل أن يودعها في "سيّالة" جلبابه العميقة، ثم يمضي. عبد الله ابنه أحسن منه؛ طيب، سمح الوجه، لذا اقتربنا منه، وتلذذنا بحليبه. لو وضعوني داخل صندوق سأفرغ أطباقه، وأملأ بطني حتى فمي.

حلقي مسكّر بالزبادي، وأنا أغالب النوم، وقد التفّت أسرتي حول طبلية السحور، إخوتي متحفزون للفول الساخن، والأرغفة المقمّرة، والجبن القريش، وحين وُضِعت طاسة الفول وسط الطبلية، انتبهت للّقيمات المتكورة في الكفوف، ثم المستقرة في الأفواه، وامتدت يد أمي برغيف، تناثرت "الرّدة" منه، أمسكته، وغمست أصابعي.
ملأ السمن والبيض خياشيمي، وتلذذت كثيراً بالتوابل، وراحت يدي لطبق الجبن وقد افترشت أقراصه سمناً سائلاً؛ ابتلّت لقمتي به قبل أن تنال جزءًا من الجبن.
وتلاشى الزبادي من حلقي، إلى نهاية الشهر.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى