لغة الضاد.. لا بواكي لها

> ناجح إبراهيم

> من العجيب أن تتسع اللغة الصينية للعلم الحديث والإنجاز الحضاري رغم صعوبتها وتعقيداتها الشديدة حتى إن من يقترب منها يكاد يكره دراستها.. ولكن الصين اهتمت بها فاهتم بها العالم كله.
 ومن الغريب أن تتسع اللغة اليابانية لكل منجزات العلم والحضارة رغم عقم أبجديتها ومحدودية مفرداتها.

والأغرب أن تحيا «اللغة العبرية» وتُسترد من المتاحف وبطون المقابر بعد أن ماتت لألفى عام لتصبح اليوم لغة العلم والدين والسياسة وتعبّر عن أدق المصطلحات والمخترعات العلمية الحديثة في الفيزياء والكيمياء والرياضيات في إسرائيل والعالم.
ذلك في الوقت الذي تنحسر فيه لغة القرآن الكريم وتعاني الغربة في بلادها وأوطانها.. «لغة الضاد» تنحسر بانحسار أهلها، وتنزوي عن التفاعل مع الحياة بانزواء أهلها الحضاري، وتنكمش بعيداً عن العلم لبُعد أهلها عن العلم وزهدهم في لغتهم وسعيهم لتعلم اللغات الأخرى.

فاللغة العربية التي كانت بالأمس صالحة لأن تعلّم العالم وأن تكون لغة الحضارة التي أشرقت على الدنيا لعدة قرون.. هل أصبحت اليوم عاجزة عن القيام بدورها أو تأدية متطلبات الحضارة الإنسانية؟
 لقد كان نزول القرآن الكريم بالعربية موضع إعجاز وتحد لأجيال كثيرة. ولولا أن هذه اللغة حية ونابضة وفتية ومستحقة للخلود والبقاء والنماء ما أكرمها الله بأن أنزل كتابه بها. فاختيار العربية كلغة للتنزيل هو بلا شك تشريف لها من بين سائر اللغات.. وهو في الوقت نفسه تكليف لها بأداء مهمتها في تبليغ الوحي الإلهي للناس وتبليغ معاني الحضارة الإسلامية لهم.

 فـ «العربية» التي وسعت كتاب الله وسنة رسوله وأعجزت الخلق وأوصلت الحضارة الإسلامية التي سادت القرون الأولى بعد عهد النبوة.. هل عجزت أن تكون لغة العلوم والفنون والآداب؟
 ولماذا زحفت كل اللغات الأجنبية على كل شيء في حياتنا؟ بدءاً من مدارسنا وجامعاتنا ومناهجنا الدراسية وشروط القبول في الوظائف وتسمية محلاتنا وانتهاء بأسماء أولادنا وبناتنا وتحياتنا في الصباح والمساء بل وأعيادنا ومناسباتنا.

 إن أغلب الأسر المصرية والعربية تجعل أولادها تدرس في مدارس اللغات، سواء حكومية أو خاصة. أما الأثرياء وعلية القوم وأصحاب النفوذ فيرسلون أولادهم للدراسة في المدارس الدولية التي تدرّس كل المواد باللغات الأجنبية سواء الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية. ولذا يتوقع خبراء التعليم أن يكون خريجو المدارس الدولية هم قادة المستقبل في مصر ومعظمهم يكره اللغة العربية ولا يحب الحديث أو القراءة أو الكتابة بها.. ولا يحب آدابها ولا يريد التعرف على فرسانها.. ولا يريد أيضاً الاطلاع على القرآن العظيم أو أحاديث الرسول الكريم، «فالإنسان عدو لما يجهل وعاشق لما يعرف».. وقد رُبى في المدارس الدولية على الجهل بكل ما يمتُّ للعروبة بصلة بما فيها القرآن والسنة.

 وبعد أجيال ستصبح الأجيال الحاكمة والرائدة في مصر معزولة عن دينها ولغتها، منفصلة عنها واقعياً وشعورياً ظاهراً وباطناً.
 ولنا أن نتأمل ماذا فعلت إسرائيل لإحياء «اللغة العبرية» بعد أن ماتت لألفى عام.. لقد بدأت تجربتها في أواسط القرن التاسع عشر حينما كان اليهود موزعين على مائة دولة وكانوا جميعاً يتحدثون لغة البلاد التي يعيشون فيها.. فرفع مفكرهم «إليعازر بن يهوذا» شعاراً مهماً هو «لا حياة لأمة بدون لغة».. وقد بدا هذا الهدف عند اليهود صعباً، إن لم يكن مستحيلاً، لكنه تمسك بفكرته وهاجر إلى فلسطين سنة 1881 وأنشأ أول بيت يهودي يفرض العبرية للتخاطب في كل شئون الحياة.. وقد ظل يعمل لإنجاح هدفه أربعين عاماً كاملة أصدر خلالها صحيفة وقاموساً للعبرية من 16 جزءاً ونشر المدارس العبرية وتم صك وتدشين كلمات عبرية جديدة.. ثم امتدت التجربة بعد إنشاء دولة إسرائيل إلى كل مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والفنية والسياسية حتى إنه لا يستطيع إسرائيلي أن يتحدث في أي مؤتمر عالمي إلا بالعبرية.

 لقد أحيت إسرائيل العبرية بعد موتها وجعلت لها مكاناً ومكانة رغم أنها من أضعف اللغات في كل شيء.. ولكنها أدركت أن بقاءها مرتبط ببقاء لغتها القومية.
 وهذه فرنسا التي خافت على لغتها من زحف الإنجليزية عبر الفضائيات، وخاصة بعد انفراد أمريكا بزعامة العالم، فشرّعت عام 1994 عقوبة للذي يستخدم لغة غير الفرنسية في الوثائق والمستندات والإعلانات المسموعة والمرئية ومكاتبات الشركات العاملة على الأرض الفرنسية.. وتصل العقوبة للسجن أو الغرامة، ففرنسا ستزول إذا زالت لغتها.. هذا فضلاً عن «الفرانكوفونية» وجهودها في نشر الفرنسية في أفريقيا والعالم العربي.

 أما نحن فنسخر من لغتنا تارة ونهملها أخرى ونخجل منها ثالثة.. ونفخر بلغة الأعاجم ونعتبرها دليلاً على الرقي والتحضر.. ونسخر أحياناً من سيبويه ومن النحو العربي.. ناسين أن اللغة العربية هي لغة الخلود لأنها لغة القرآن وصدق «إقبال» حينما قال: «من أراد أن يكتب وثيقة في الأرض فيقرأها الناس بعد ألف جيل فليكتبها بالعربية لأنها لغة الخلود من القرآن الخالد».

 لقد مر اليوم العالمي للغة العربية منذ عدة أيام فلم يحتفل أو يحتفي به أحد في مصر لا رسمياً ولا شعبياً ولا على أي مستوى.. واحتفلت به فقط اليونيسكو في باريس ذاكرين كلمات «جوستاف لربون» المفكر الفرنسي: «إن اللغة العربية من أكثر اللغات انسجاماً»، والمستشرق الألماني نولدكه: «يزداد تعجب المرء من وفرة مفردات اللغة العربية».. أما الفضائيات المصرية فلم تذكر شيئاً عن اليوم العالمي للغة العربية، وعذرهم معهم، فحفلات اكتشاف الراقصات والمغنيات وبرامج الردح والشتائم والردح المضاد لا تنتهي.. معذورون لأنهم لا يستضيفون إلا شريحة «من إذا خاصم فجر».

 إن أمة تهمل لغتها وعلماءها وحكماءها وتهيل التراب عليهم وتحتفي بالجهلة والراقصات هي أمة لا تستحق البقاء.. إنها أمة «ارقص» وليست أمة «اقرأ».​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى