عن الحكم الدستوري بإلغاء استفتاء كتالونيا (2-1)

> القاضي د. محمد جعفر قاسم

> تناقلت الأخبار، أمس، خبراً هاماً عن حكم أصدره القضاء الإسباني في قضية المسؤولية الجنائية عن الاستفتاء على انفصال كتالونيا عن إسبانيا، وقد قضى هذا الحكم بعقوبة تتراوح بالسجن من 9 سنوات إلى 13 سنة ضد تسعة من قادة كتالونيا بمن فيهم رئيس وزرائها.
وقبل صدور هذا الحكم كان بعض خبراء القانون الدستوري في فرنسا قد انتقدوا حكم المحكمة الدستورية الإسبانية الصادر في 17 أكتوبر 2017، الذي قضى بإلغاء القانون الكتالوني الصادر في 6 سبتمبر 2017 حول تنظيم الاستفتاء حول انفصال كتالونيا عن إسبانيا باعتبار أن هذا الحكم تسييس للمحكمة الدستورية الإسبانية (politsation la cour constutionnlle Espagnole) وسيؤدي بها إلى تدمير نفسها تدميراً ذاتياً (autodestrucation) خاصة بإدانتها لرئيس برلمان كتالونيا بسبب إدراجه مشروع قانون الاستفتاء في جدول أعمال البرلمان، واعتبره بعض رجال القانون الدستوري بأنه يشكل انتهاكاً صارخاً لمبدأ حرية المداولات البرلمانية.

وتحددت نقطة الخلاف الكبرى بين الحكومة الإسبانية والحكومة الإقليمية والبرلمان الإقليمي لكتالونيا في مسألة ما إذا كان القانون الكتالوني حول الاستفتاء يخالف ويناقض الدستور الإسباني في عدد من مواده، أبرزها المواد الأولى والثانية والثالثة التي تنص على وحدة الأمة الإسبانية وعدم قابلية أراضيها للتجزئة حسبما تراه الحكومة الإسبانية بواسطة ممثلها القانوني المدعي العام الإسباني، أم أن هذا القانون لا يشكل خرقاً لنصوص الدستور الإسباني لأنه يعتبر ممارسة لحق تقرير المصير الذي ينص عليه القانون الدولي، وعلى وجه الخصوص في العهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاجتماعية والاقتصادية، لأن الدستور الإسباني في مادة (96) ينص على أن الاتفاقيات الدولية التي تكون إسبانيا طرفاً فيها تصبح جزءاً لا يتجزأ من القانون الداخلي الإسباني.

ويثير هذا الخلاف بين الحكومتين الكتالونية والإسبانية مسألة ما إذا كان القانونان الدولي والداخلي يشكلان قانونين متميزين، أي مبدأ ثنائية القانون، وبالتالي يحل الخلاف على استفتاء الانفصال وفقاً لقواعد القانون الدولي أم أن هذين القانونين يشكلان في الحقيقة نظاماً واحداً، أي مبدأ وحدة القانون الدولي والداخلي وبالتالي يحل هذا الخلاف وفقاً لقواعد القانون الداخلي وحتى في نظام وحدة القانون تثير عادة في هذه الأحوال مسألة لمن الأولوية في التطبيق من قبل القاضي الوطني للقواعد الدولية المدمجة في التشريع الداخلي أم للقواعد القانونية التي يشرعها البرلمان الوطني؟

وقد أخذت المحكمة الدستورية الإسبانية بمبدأ وحدة القانون، وتجلى ذلك بنص حكمها الصادر في 17 أكتوبر 2017 الذي رفض تطبيق نص المادة الأولى من العهدين الدوليين المذكورين حول مشروعية حق الشعوب في تقرير المصير وأخذت بأحكام قانونها الداخلي بتطبيقها لنصوص الدستور الإسباني حول السلامة الإقليمية (أي وحدة أراضي الدولة) التي ينص عليها أيضاً القانون الدولي، وإن كان مجال النص الدولي ينحصر تطبيقه في رأينا ورأي العديد من فقهاء القانون الدولي في ميدان علاقتها الخارجية بمختلف دول العالم ولا يمتد إلى مجال علاقتها الداخلية بالحركات الانفصالية في بلدها حسبما عرضناه في الدراسة التي أعددناها حول حق الشعوب في تقرير المصير والانفصال ومبدأ السلامة الإقليمية في يناير 2018.

واليوم وبمناسبة صدور أحكام السجن ضد قادة كتالونيا رأينا من المفيد أن نعرض ما سبق لنا شرحه عن ذلك الحكم الدستوري في دراستنا له التي أشرنا إليها.

* عضو المحكمة العليا عدن سابقا
وكيل وزارة العدل صنعاء سابقا
كالجري ١٤ أكتوبر ٢٠١٩​

المبدئان في المحكمة الدستورية الإسبانية
أصدرت المحكمة العليا الإسبانية حكمها في 17 أكتوبر 2017 في الطعن الذي قدمه المدعي العام الإسباني ضد حكومة وبرلمان كتالونيا التي تتمتع بالاستقلال الذاتي بشأن قانون الاستفتاء حول استقلال إقليم كتالونيا. وقد نشر نص الحكم باللغة الإنجليزية في موقع المحكمة الدستورية الإسبانية التالي:
https://www.tribunalconstitucional.es/ResolucionesTraducidas/Ley%20referendum%20ENGLISH.pdf
ففي السادس من سبتمبر عام 2017 تبنى برلمان إقليم كاتالونيا في إسبانيا قانوناً يقضي بإجراء استفتاء يتمتع بصفة الإلزام حول مسألة استقلال كاتالونيا عن المملكة الإسبانية، كما وجه الدعوة لمواطني كاتالونيا بالاشتراك في عملية الاقتراع في ذلك لاستفتاء.
وقد طعن المدعي العام الإسباني بالنيابة عن ملك إسبانيا في القانون الكتالوني حول الاستفتاء، مستنداً على مخالفته للنصوص الإجرائية المتعلقة بصياغته وتقديمه ومناقشته واشتراط توافر أغلبية موصوفة لإقراره في بناء على أحكام دستور وقوانين كل من إسبانيا كاتالونيا بناء على نصوص قانونها الداخلي خاصة قانونها التنظيمي.
وأشار المدعي العام إلى أن هذا القانون الكتالوني يجسد إحدى المواجهات الكبرى بين حكومة وبرلمان كاتالونيا والدستور الإسباني في هذا الميدان. كما أشار إلى أن المحتوى السياسي والقانوني للقانون الكتالوني قد أوجد من حيث الموضوع تضاربا صارخاً بين نصوصه ونصوص الدستور الإسباني على الرغم من أوامر المحكمة الدستورية الصادرة في الأعوام 2015 و2016 و2017. وأنه على الرغم من كل هذه القرارات أصر برلمان كاتالونيا على إصدار القانون المطعون فيه.
كما قال بأن الطعن بعدم دستورية القانون الكتالوني يشكل القناة الدستورية التي لا غنى عنها للمحافظة على النظام الدستوري في إسبانيا ومواجهة ما سماه الخرق الفظيع للدستور ولأوامر المحكمة الدستورية.
وفي الموضوع استند المدعي العام الإسباني في طعنه على مخالفة القانون الكتالوني لمبدأ السلامة الإقليمية المنصوص عليه في الدستور الإسباني كما أنه يغيّر من طبيعة السيادة في الدستور الإسباني ويمس بالشكل الدستوري للدولة الإسبانية ويخالف التسلسل الهرمي للقوانين الإسبانية كما يخالف مبدأ تقرير المصير.
وقد قررت المحكمة الدستورية الإسبانية أن القانون المطعون فيه يخالف الإجراءات الواجب أتباعها من أجل تبني القوانين في كل من إسبانيا وكتالونيا. كما أنه من حيث الموضوع يخالف المبدأ المقر في الدستور حول السلامة الإقليمية لإسبانيا. كما رأت أن حق تقرير المصير يقصد به الشعوب التي ترزح تحت الحكم الأجنبي وأيضا لأن هذا المبدأ في القانون الدولي لا ينطبق على حالة كاتولونيا.
صورة التقطت في 10 أكتوبر 2017 ، حضر رئيس حكومة كاتالونيا كارليس بويغديمون اجتماعًا حكوميًا إقليميًا في قصر جينيراتيت في برشلونة
صورة التقطت في 10 أكتوبر 2017 ، حضر رئيس حكومة كاتالونيا كارليس بويغديمون اجتماعًا حكوميًا إقليميًا في قصر جينيراتيت في برشلونة

مخالفة القانون الكتالوني للإجراءات القانونية
احتلت هذه المسألة حيزاً كبيراً في أسباب الحكم الذي توصلت إليها المحكمة في هذه القضية، وأشارت إلى أنه سبق لها التطرق لمطالب كتالونية في الأعوام 2015 و2016 و2017، وأصدرت الاوامر بشأنها. كما تمت الإشارة إلى أنه طلب من برلمان كاتولونيا العدول عن المطالبة بالانفصال إلا أنه رفض الانصياع لأوامر المحكمة الدستورية.
وأوردت المحكمة عدداً من المخالفات الإجرائية التي ارتكبت عند صياغة وتقديم القانون ومناقشته وإقراره وأهمها ما يلي:
1 - أن رئاسة برلمان إقليم كتالونيا تقدمت بمشروع القانون المطعون فيه في تمام الساعة التاسعة صباحاً من يوم 6 سبتمبر 2017 متبعة “الإجراءات الخاصة بالاستعجال”، وأن الجريدة الرسمية لبرلمان كتالونيا قد نشرت هذه المبادرة التشريعية لرئاسة البرلمان قبل الساعة العاشرة من صباح ذلك اليوم. وهذا التصرف يخالف المادة 42 - 1 من نظام برلمان كتالونيا.
2 - عند تقديم السكرتير العام لبرلمان كاتالونيا مشروع القانون أشار إلى أن محتواه الذي يدعو إلى الموافقة على الاستفتاء يخالف حكم المحكمة الدستورية وأوامرها السابقة.
3 - بدأ برلمان كاتالونيا أعماله في تمام الساعة العاشرة من صباح يوم 6 سبتمبر 2017 وطلب فيه المتحدث باسم المجموعة البرلمانية المؤيدة لمشروع القانون التصويت بالموافقة على القانون بموجب المادة 81 - 3 من نظام برلمان كاتالونيا.
4 - أجل رئيس برلمان كاتالونيا الجلسة العامة للبرلمان مرتين بناء على طلب المجموعة المعارضة للقانون المطعون فيه لإعادة النظر فيه، وذلك على الرغم من أنه سبق له رفص الطلب في بداية الأمر. وأيضا استند طلب المجموعة البرلمانية المعارضة للقانون على عدم توزيع جدول أعمال الجلسة البرلمانية قبل 48 ساعة من عقدها حسبما توجبه المادة 82 من نظام برلمان كاتالونيا.
5 - قام رئيس البرلمان بالدخول في مناقشة القانون والتصويت عليه مباشرة ولم يتبع فيها الإجراءات الجوهرية.
6- أن هذه الإجراءات المستعجلة التي اتخذت بسرعة فائقة تلغي أو تضيق جداً إمكانية تعديل نصوص مشروع القانون من قبل المجموعة البرلمانية المعارضة له، الأمر الذي يضع النظام البرلماني الديموقراطي في موقف حرج جداً.
وأشارت المحكمة والمدعي العام إلى عدد من النقاط الإجرائية الأخرى التي لم يطبقها برلمان كاتالونيا في عملية تقديم ومناقشة وإقرار مشروع القانون، بما فيها نشر القانون خلال فترة 11 ساعة فقط من تقديمه وأعطيت ساعتين فقط لمناقشة تعديله وتم التصويت على التعديلات التي أدخلتها المجموعة البرلمانية المؤيدة لمشروع القانون في غياب المجموعة المعارضة لمشروع القانون. وهكذا نشر القانون في الجريدة الرسمية لكاتالونيا والجريدة الرسمية لإقليم كتالونيا.
وعليه قررت المحكمة أن برلمان كاتالونيا قد أهمل بالطريقة التي اتبعها لإقرار القانون المطعون فيه تطبيق القرارات والمتطلبات السابقة والمتطلبات التي أوردتها المحكمة الدستورية حول عدم مشروعية الدعوة إلى الاستفتاء كمقدمة لإعلان استقلال كاتالونيا.
ومن حيث الموضوع قررت المحكمة الدستورية الإسبانية أن القانون الكتالوني يخالف وينتهك مبادئ السلامة الإقليمية لإسبانيا ووحدة أراضيها غير القابلة للتجزئة والانحلال ويمس بوحدة الأمة الإسبانية وفي المبادئ التي يحميها ويصونها الدستور.
كما رأت أن القانون الكتالوني يخالف مبدأ تقرير المصير في القانون الدولي الذي يعترف به كمبدأ عام في حالة الشعوب المستعمرة أو الرازحة تحت الحكم الأجنبي ولا تنطبق أحكام القانون الدولي في رأيها على حالة الدولة المستقلة إلا في حالة واحدة على سبيل الاستثناء تتجسد بالانتهاك الواسع النطاق للحقوق السياسية والاجتماعية للإقليم المطالب للانفصال ولمواطنيه.
وخلصت إلى القول بأن ليس لإقليم كتالونيا حق تقرير المصير والانفصال بسبب عدم انتهاك إسبانيا لحقوقه وحقوق مواطنيه وبسبب أن إسبانيا دولة ديموقراطية تحترم المساواة وحكم القانون.

ملاحظاتي حول سرعة تصويت البرلمان الكتالوني على قانون الاستفتاء
من الواضح أن المحكمة الدستورية الإسبانية قد أغمضت عينيها تماماً ووضعت أصابع يدها في أذنيها بتجاهلها الكلي المفضوح للظروف الاستثنائية البالغة التي جرت في ظلها عملية تقديم القانون ومناقشته وإقراره، المتمثلة بالتصريحات العنيفة للحكومة الاتحادية الإسبانية التي هددت بمنع التصويت عليه حتى ولو بالعنف. وبالفعل استعملت الحكومة الإسبانية قوة الجيش والشرطة ضد المصوتين على الاستفتاء حسبما عرضته شاشات التليفزيون في العالم أجمع، كما لم تتورع بعد إقراره من توجيه اتهامات الخيانة ضد قادة حكومة وبرلمان كاتالونيا.
كما قامت المحكمة الإسبانية بمصادرة عدد كبير من صناديق الاقتراع، وهو الأمر الذي يكشف بوضوح عن انحيازها بدون مواربة إلى جانب الحكومة الإسبانية ومحاولتها النيل من شرعية تصويت المواطنين الكتالونيين بحجج إجرائية واهية لا تصمد أمام الظروف التي تمت في ظلها عملية تقديم ومناقشة وإقرار مشروع القانون، لأن الحكومة والشعب في كاتالونيا قد وجدوا أنفسهم في سباق مع الزمن لإقرار القانون قبل استخدام الحكومة الإسبانية قوة الجيش والأمن لمنعه.

مخالفة القانون الكتالوني للدستور الإسباني
رأت المحكمة الدستورية الإسبانية أن الدليل على الخروقات التي وصفتها بالخطيرة والمجردة من الأساس السليم يقوم بناء على أن القانون الكاتالوني بمجمله يخالف المواد 1-1 و1-2 و1-3 و168 من الدستور الإسباني.
1 - وأن هذا القانون عندما يشير إلى “إجراء استفتاء يتصف بالإلزام حول تقرير مصير كاتالونيا” فإنه بذلك يخرق المواد 1-1- و1-2- و1-3 و162 من الدستور الإسباني التي تنص على السلامة الإقليمية لإسبانيا ووحدة أراضيها ووحدة أمتها.
2 - أن إشارته إلى وجود كيان سياسي للشعب الكاتالوني المستقل عن الأمة الإسبانية تخرق نصوص دستور إسبانيا.
3 - أن الإشارة الواردة في هذا القانون في مادته الأولى على أنه قانون برلماني يمثل سيادة شعب كاتالونيا ويعلو على أي قانون أو قاعدة تتضارب مع تنظيم الاستفتاء حول تقرير مصير كاتالونيا يخالف المبدأ القانوني حول تسلسل علو القواعد القانونية في إسبانيا. فعلى الرغم من أنه لا ينص صراحة على إلغاء القوانين والقواعد القانونية المخالفة له، إلا أن القانون بهذا النص يتصرف كسلطة تأسيسية للمشرع الكاتالوني مبنية على أغلبية بسيطة تتمثل بأغلبية 72 صوتاً من أصل 135 مقعدا تمثل مجموع عدد أعضاء البرلمان الكاتالوني، وهذا العدد من الأصوات المؤيدة للقانون يخالف نص المادة 222 التي تشترط ضرورة حصوله على أغلبية ثلثي أصوات عدد أعضاء برلمان كاتالونيا.
4 - كما أن القانون المطعون فيه يتصف بعدم المشروعية لأن يغّير من السيادة الوطنية للشعب الإسباني، كما يشكل مخالفة لوحدة الأمة الإسبانية غير القابلة للتجزئة أو الانحلال، وهي الوحدة التي يرفعها الدستور الإسباني إلى مصاف الأساس الجوهري للنظام الدستوري.
5 - أن هذا القانون الذي يهدف إلى إنشاء جمهورية في كاتالونيا يخالف النص الدستوري حول الشكل الدستوري لإسبانيا  كدولة ملكية برلمانية. 


> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى