معالم عدن التاريخية.. من مأساة الغنيمة بالنظام السابق إلى التجارة النامية بالحاضر

> ما يحدث الآن لعدن وتاريخها يعد مأساة عالمية لكونها هوية جامعة

>
كتب/ د. عبد الحكيم العراشي*

كيف يكون حال مجتمع يريد أن يقضي على حضارة قرون في ليل دامس؟!.

ماذا نقول على مجتمع غمرته موجة النور والحرية؟، ولكنه يرفض ذلك فيكشر عن أنيابه ويتجه نحو التهام هويته، كأن نواظره قد ألفت الظلمات.. فاليوم إن عُبثَ بمعالمه، فغداً يفتح الجفن على خوف وحذر ثم يغلقه وينعم بالظلام المألوف!.

تلهج الصحف والقنوات الفضائية والإذاعات ومواقع التواصل الاجتماعي بجل منتسبيها، عالمها وجاهلها، وحاكمها ومحكومها، بلفظ السلام والأمن والأمان في عدن، وهم يخدعون أنفسهم أو سواهم من الناس بأن الحرب قد وضعت في مدينة عدن أوزارها. ولكنني لم أرَ ذلك، فالكل في حالة تقاطع وتدابر، ولا أمر في احترام التجارة، ولا وجود للسياحة، ولا انتظام في السياسة، ولا عهود ومواثيق، ولا وصول للمعارف، ولا دروب تؤدي إلى ميادين العلوم.

ألم يروا أن عدن دخلت في معترك لا رحمة فيه ولا هوادة؟! ألم يأتِهم نبأ هدم الدعائم الراسخة في كيان المدنية القديمة والاستباحة بالمعالم التاريخية بطريقة همجية ومخيفة يكاد زلزالها يهدم وينهي كل أثر ومعلم؟، فماذا نقول للأجيال؟ أو بالأصح ماذا سيخبر التاريخ الأجيال عن معالم عدن؟ بالطبع سيخبرهم أن الصهاريج كانت مساحة للبسط والبنيان، والمتحف كاد أن يتحول إلى دكان.


عذراً حضرات السادة المتمانعة والمتصارعة، وكذلك الجماعات المتطاحنة.. معالمنا وهويتنا وتاريخنا وثقافتنا في خطر، التفتوا إليها قبل فوات الأوان.. وفروا لها بضعة أطقم لحمايتها من تلك الأطقم التي تتناطح فيما بينها لحماية المتنفذين عليها.. انظروا إليها، فهي كنوز إن ضاعت لا يمكن تعويضها، فهي ثمرة من ثمار الحضارة التي توارثها الأجيال، ولولاها لما تكاملت معرفة الإنسان بتاريخه وهويته وحضارته.. ولولاها لما أدرك الإنسان غاية اتساق عدن في نظام الحضارة.. ولولاها ما عرفنا رقة ذوق حضارتنا واتساع خيال الإبداع الحضاري، فالإبداع الحضاري في معالم عدن هو المنبع الفياض الذي تنبجس منه صور الفن الذي تعطينا صورة شخصية وطابع مدني وهوية جمعية.
مأساة
إنها الكارثة، فلا يتمالك المرء أن يزفر زفرة الثكلى كلما نظر وتأمل في آفات هذه الفترة التي فيها أُصيبت معالم عدن، وهي الآن على وشك أن تذهب ببهجة فرح عدن، ويسرق العابثون رونق جمالها. إنهــم أولئك العابثون أصحاب المنفعة الذين يعارضون مسير عقارب الساعة إلى الأمام، ويريدون أن يعيدوهــا بالقوة للخلـف، رائدهم في ذلك تحقيق مصلحة خاصة وشخصية آنية، وحتى وإن تسبب ذلك في إطفاء بريق حضارة أُمة، فهـم بالأساس نتاج صدمة حضارية للمجتمع، وهم سبب أزمة هوية بلد، وهم حواجز مانعة لإنتــاج المشروع الحضاري، بل إنهم النقيض التاريخي للمشروع الحضاري الجنوبي.

فما يحدث الآن في عدن ليس مأساة لمدينة عدن وتاريخها فحسب، بل إنها المأساة العالمية، باعتبار عدن هوية جامعة بما تتضمنه من محتوى ثقافي واجتماعي وتاريخي، وحالة استيعاب تفاعلي مع جميع الثقافات والأعـراق والأمم.


هنا في قلب عدن وعبـر مسار تاريخي طويل في إطار الجغرافيا العربية والإسلامية تحاورت الحضارات، وتمازجت الثقافات، واكتضت مجالس العلماء والحلقات، وشُيّدت المنارت، وتعايشت الأجناس والأعراق ما بين صيرة والصهاريج، فبين صيرة والصهاريج حافة الصومال واليهود والهنود وغيرهم.. إنها أجناس مختلفة تعايشت بسلم وسلام، فكانت عدن أول مدينة عرفت التعايش السلمي في التاريخ، فهي البوتقة التي انصهرت فيها كل عناصر التعايش.

أزمة سياسية وفوضى هوجاء ظَالمة مُظلمة ظَلَمت عدن وأظلمتها تمخضت فولدت تدميراً لمعالم عدن التاريخية، وحسبي أن أقص عليكم ما عانته معالم عدن التاريخية من النهب والتخريب المُمنهج في فترة النظام السابق (نظام صالح)، ولكن هذا أمر معروف عن هذا النظام ودوافعه، فهم جميعاً سواسية كأسنان المشط، فإن لم يتشابهوا في الهيئة فهم متشابهون في العقل، لذا فهم مضرب المثل في معرفة مداخل الربح والغنيمة وما كان السبيل إليها.
غريزة تجارية
ولو وقف أمر تخريب معالم عدن التاريخية هنا لهان الخطب، ولكن الضربة كانت من بعض بني جلدتنا في الجنوب الذين انهالوا على معالم عدن التاريخية، فخجلت مزاعمنا بأننا مجتمع متميز، فيبدو أن بعضنا أكثر مما يتميز به هي النزعة التجارية، فغريزتنا التجارية النامية تسيطر على عقولنا ومشاعرنا، حيث أصبحت لنا أخلاق تجارية عريقة وعقلية تجارية مهنية لدرجة أن كادت معالمنا التاريخية تتحول إلى دكاكين.


نعترف أن هناك أزمة في الأنساق المجتمعية يعاني منها المجتمع في الوقت الحالي، وهو أمر أدى إلى ما آل إليه وضع المعالم التاريخية، لكن النصيب الأكبر يتحمله القادة والقائمون على إدارة البلاد والعباد، فهذه هي الحقيقة، أو كيف نُفسر خروج الحراسات المعززة بالآلات العسكرية لحماية الأراضي لبعض المتنفذين ولا تهتم بحماية معالمنا التاريخية من العابثين؟.

وهذه هي الحقيقة المرة، ولكن نحن، أغلب معشر العرب، إن لم نقل جميعنا لم نتعود سماع عيوبنا من لسان ناصح، ولو كانت تلك العيوب ظاهرة للعيان لا كذب فيها البتة، وجلنا إذ لم نقل كلنا يحب المدح ولو كان كذباً محضاً، وهذا الذي أخر تقدمنا الحضاري وأضر به هذا الضرر الكبير.


أخيراً.. إن المعالم التاريخية في مدينة عدن تعني استمرار تاريخي، وحضارة غنية، وواقع مجيد، فكانت لها أيام ناصعات، وكان لها بريق وضّاء، فلماذا تُخرب اليوم عن وعي وقوة؟، فبدلاً من أن تستعيد خيراً من مجدها الباهر، ونحفظ لها ناموس البقاء لترشد الأجيال المتعاقبة جيل بعد جيل على علو كعب الحضارة الجنوبية تتكالب عليها معاول الهدم وفؤوس التخلف.

* أستاذ الحضارة الإسلامية المشارك

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى