الخروج من النفق يبدأ بتغيير الفكر

>
أن تشاهد أفضل فيلم سينمائي لأكثر من مرتين فإنك تصل إلى ملل من التكرار. فما بالنا ونحن نشاهد في حياتنا اليومية تكرار المكرر الممل من المآسي والفشل، إضافةً إلى الفساد المهول والهدف من ذلك إجبارنا على التعايش معها والإحباط وفقدان الأمل لأي تغيير. ولعل المتابع للأوضاع العربية، لاسيما القضية الفلسطينية لعقود، والصومال والعراق واليمن وليبيا ولبنان لسنوات طويلة، تؤكد هذا المسار رغم التفاوت في محاولة الخروج من هذا الواقع الأليم.

إن الإصرار على حل هذا الواقع العربي بصفة عامة واليمني بشكل خاص بنفس الفكر الموروث من القرن الماضي، إنما هو استخفاف النخب بمعاناة مواطنيهم الذين يتحملون العبء الأثقل للمأساة. ولهذا، فالأمل في التغيير يتطلب ثورة فكرية للأجيال الثلاثة الحالية تنطلق من رفضهم الكامل لكل المفاهيم والسياسات التي تسببت فيما نعاني منه، والإقرار بعدم تكرارها وبنفس الوقت إرساء مفاهيم وسياسات تتلاءم ومتطلبات القرن الواحد والعشرين وليلبى أحلام الأجيال القادمة.

والفكر الجديد يتطلب آلية تشاركية للمجتمع على أساس التكامل بين مصالح الأجيال الثلاثة (جيل أول، جيل وسط، جيل شباب)، وإتاحة فرصة التنافس بين الأفكار التي يحملونها، لاسيما تلك الإيجابية منها، والتي يمكن أن تشكل أساساً لبلورة الفكر الجديد الذي يمزج بين تلك الأفكار النيرة في التجربة الإنسانية.

ولتحقيق هذه التجربة لا بد من آلية تختلف عن سابقاتها التي كانت تعد من قبل النخب في المستوى الأعلى والتي تلبي مصالحها بدرجة رئيسية وفقاً للأيدولوجيات التي يتبنونها ولا تخدم الغالبية العظمى من المواطنين إلا بالشعارات الحماسية والعاطفية. وبالتالي، فإن الانطلاقة للفكر الجديد تكون من القاعدة الشعبية وهي في أدنى السلم الإداري، ولتكن المديرية هي النواة الأولى التي يتشكل هذا الفكر من خلال صياغة مصالحها ومصالح أجيالها القادمة.

وعلى ضوء ذلك، لا بد من الأدوات التي تتحمل مسؤولية التهيئة والإعداد لتأسيس الفكر الجديد بالآلية الجديدة، ولكي نؤسسها لا يمكن تكرار الأداة التقليدية أو الحديثة التي ساهمت بشكل أو بآخر فيما نحن فيه ولكي تكون مختلفة ومميزة عن سابقاتها بحيث تسمح لكل المواطنين حق الاختيار للأداة التي تلبي قناعاتهم ومصالحهم.

والأدوات السياسية المنشودة تتشكل من الاتجاهات الثلاثة المعروفة وهي (المحافظ، المعتدل، العلماني)، والذي أيضاً يضم كل اتجاه فيه الأجنحة الثلاثة المعروفة وهي (اليمين، الوسط، اليسار)، وبهذا يكون لدينا تسعة أجنحة في إطار الثلاثة الاتجاهات. وما يميز ذلك هو التنوع بدلاً من المركزية والتنافس بدلاً من الصراع ويسهم بمشاركة أوسع لشرائح ومكونات المجتمع في إطار المديرية وفي المستويات العليا.

تحديد الأدوات السياسية الثلاثة وفقاً للاتجاهات لا يعنى إلغاء بقية الأدوات السياسية، بل يملئ مساهمتها الإيجابية نحو التوجه للفكر الجديد بآليته وأدواته الجديدة من خلال التجميد المؤقت لمرحلة انتقالية لا تتعدى عامين أو من حقها الاستمرار كما هي عليه، وهذا حقاً للجميع خاصة وأن الأدوات الجديدة لم تفضل مكوناً عن آخر ولم تستبعد أياً منها، بل إن النظرة للجميع كمواطنين في إطار النواة الأولى.

والبداية للانطلاقة هي الدعوة لمواطني كل المديريات أن تساهم باختيارها للاتجاه والجناح الذي يمثل مصالحها من خلال الاستمارات التي يتم توزيعها واستلامها وتحليلها والخروج بقوائم تمثل الاتجاه والجناح. وكذا الجيل والجنس، ليشكل في الأخير ثلاث أدوات رئيسة تتنافس وتتكامل لمصلحة المديرية ومواطنيها وينطبق ذلك على المستويات العليا.

وبمعرفة قوائم الثلاثة الاتجاهات بأجنحتها الثلاثة، وكذا معرفة الأجيال الثلاثة ومن الجنسين يكون لدينا أعضاء لكل أداة من الأدوات الثلاثة والتي تتم وفقاً للآلية الديمقراطية اختيار مرشحيها لقيادات كافة المستويات وبحيث تكون متساوية.
وباستكمال الهيكل التنظيمي لكل أداة تتم الدعوة لجميع أعضائها للقاء التأسيس الأول الذي يقر عدداً من القضايا المطروحة والترشيحات المختلفة ويناقش متطلبات الحالية والمستقبلية للمديرية وترتيب الأولويات، كما يناقش العلاقة مع الآخر سواءً في إطار المديرية أو المحافظات الأخرى. كما يناقش العلاقة بين الشمال والجنوب ومع دول المنطقة والعالم وفقاً للمصالح المشتركة.

مخرجات اللقاء التأسيسي الأول تمثل مشروع الأداة السياسية لكل اتجاه، ومن هنا تتم الدعوة لعقد مؤتمر عام في إطار المحافظة الواحدة للمشاريع الثلاثة التي تقدمها الأدوات الثلاثة لمناقشتها والاتفاق على مشروع مشترك للمحافظة، وإقرار حرية التعبير السلمي للقضايا غير المتفق عليها.

الأدوات السياسية الثلاثة يمكن أن تتنافس فيما بينها وفقاً لبرامجها ويمكن أن تشكل جبهة وفقاً لبرنامج مشترك، ويمكن أيضاً لإحدى الأداتين من تشكيل اتحاد بينهما وفقاً لبرنامج ثنائي بينهما.. هذه العملية تمثل بداية حقيقية نحو بناء فكر جديد وآلية جديدة وأدوات مختلفة عن سابقاتها.

ولعل مرحلة انتقالية بهذا الفكر لا تزيد عن عامين أفضل من الدوران حول الذات دون تقدم وستكون مقياساً لتجربة فريدة في واقعنا العربي وربما تمثل أساساً للمراحل اللاحقة.
تغيير الفكر يعنى الإيمان المطلق بتبني متطلبات الفكر الجديد وعدم إعادة وممارسة الفكر القديم الذي لم يحقق أحلامنا.

نائب وزير الخارجية السابق
26 فبراير 2020

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى