التتار

>
الصليبيون وقت ظهور التتار
ظهرت قوَّة التتار في أوائل القرن السابع الهجري، بشكل همجي دموي، وقد تحدثنا في مقال الوضع الإسلامي وقت ظهور التتار عن الأمة الإسلامية في ذلك الوقت وكيف أنها قد أصابها الوهَن بعد مَنَعَة، والضعف بعد قوة، فأصبحت مُهيئة لأي احتلال، وفي هذا المقال نتحدث عن القوَّة الثانية في الوقت نفسه، وهي قوَّة الصليبيين.

كان المركز الرئيسي لهم في غرب أوربا؛ حيث لهم أكثر من معقل، وقد انشغلوا بحروب مستمرَّة مع المسلمين؛ فكان نصارى إنجلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا يقومون بالحملات الصليبية المتتالية على بلاد الشام ومصر، وكان نصارى إسبانيا والبرتغال -وأيضًا فرنسا- في حروب مستمرَّة مع المسلمين في الأندلس. إضافة إلى هذا التجمُّع الصليبي الضخم -في غرب أوربا- كانت هناك تجمُّعات صليبية أخرى في العالم، وكانت هذه التجمُّعات -أيضًا- على درجة عالية من الحقد على الأُمَّة الإسلامية، وكانت الحروب بينها وبين العالم الإسلامي على أشدِّها، وكانت أشهر هذه التجمُّعات كما يلي:

1 - الإمبراطورية البيزنطية:
وحروبها مع الأُمَّة الإسلامية شرسة وتاريخية؛ ولكنها كانت في ذلك الوقت في حالة من الضعف النسبي والتقلُّص في القوَّة والحجم؛ فلم يكن يأتي من جانبها خطر كبير، وإن كان الجميع يعلم قدر الإمبراطورية البيزنطية.

2 - مملكة أرمينيا:
وكانت تقع في شمال فارس وغرب الأناضول، وكانت -أيضًا- في حروب مستمرَّة مع المسلمين، خاصة السلاجقة.

3 - مملكة الكُرْج:
وهي دولة جورجيا حاليًّا، ولم تتوقَّف الحروب كذلك بينها وبين أُمَّة الإسلام، وتحديدًا مع الدولة الخُوارِزمية.

4 - الإمارات الصليبية في الشام وفلسطين وتركيا:
وهذه الإمارات كانت تحتلُّ هذه المناطق الإسلامية منذ أواخر القرن الخامس الهجري؛ بدءًا من سنة (491هـ = 1098م).

وعلى الرغم من انتصارات صلاح الدين الأيوبي على القوات الصليبية في حطين وبيت المقدس وغيرها؛ فإن هذه الإمارات ما زالت باقية، بل وما زالت من آن إلى آخر تعتدي على الأراضي الإسلامية المجاورة غير المحتلَّة، وكانت أشهر هذه الإمارات: أنطاكية وعكا وطَرَابُلُس وصيدا وبيروت.

وهكذا استمرَّت الحروب في معظم بقاع العالم الإسلامي تقريبًا، وزادت جدًّا ضغائن الصليبيين على أُمَّة الإسلام. وشاء الله سبحانه وتعالى أن تكون نهاية القرن السادس الهجري سعيدة جدًّا على المسلمين، وتعيسة جدًّا على الصليبيين؛ فقد أَذِنَ الله عز وجل في نهاية القرن السادس الهجري بانتصارين جليلين لأُمَّة الإسلام على الصليبيين؛ فقد انتصر البطل العظيم «صلاح الدين الأيوبي» على الصليبيين في موقعة «حطين» في الشام، وذلك في عام (583هـ = 1187م)، وبعدها بثماني سنوات فقط انتصر البطل الإسلامي الجليل «المنصور الموحِّدي» زعيم دولة الموحدين على نصارى الأندلس في موقعة «الأرك» الخالدة في سنة (591هـ = 1195م).

وعلى الرغم من هذين الانتصارين العظيمين؛ فإن المسلمين في أوائل القرن السابع الهجري كانوا في ضعف شديد؛ وذلك بعد أن تفكَّك شمل الأيوبيين بوفاة صلاح الدين الأيوبي، وكذلك انفرط عِقْدُ المُوحِّدين بعد وفاة المنصور الموحِّدي، غير أن الصليبيين كانوا كذلك في ضعف شديد لم يُمَكِّنهم من السيطرة على البلاد المسلمة، وإن كانت رغبتهم في القضاء عليها قد زادت.

كان هذا هو وضع العالم في أوائل القرن السابع الهجري.

1 - قوَّة الأُمَّة الإسلامية:
وهي قوَّة ذات تاريخ عظيم، وأمجاد معروفة؛ لكنها تمرُّ بفترة من فترات ضعفها، وهذا الضعف وإن كان شديدًا؛ فإنه لم يُسقط هيبة الأُمَّة تمامًا؛ لأن أعداءها كانوا يعلمون أن أسباب النصر وعوامل القوَّة مزروعة في داخل الأُمَّة، وإنما تحتاج فقط إلى مَنْ يستخرجها وينميها.

2 - قوَّة الصليبيين: وهم وإن كانوا -أيضًا- في حالة ضعف، وفي حالة تخلُّف علمي وحضاري شديد بالمقارنة بالأُمَّة الإسلامية؛ فإنهم قوَّة لا يستهان بها؛ وذلك لكثرة أعدادهم، وشدَّة حقدهم، وإصرارهم على استكمال المعركة مع المسلمين إلى النهاية؛ وصدق الله العظيم إذ يصفهم بقوله: "وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا" [البقرة: 217].

وكانت قوَّة الإسلام وقوَّة الصليبيين -في ذلك الوقت- تمثلان معًا قوَّة العالم القديم. وبينما كان هذا هو حال الأرض في ذلك الوقت، ظهرت قوَّة جديدة ناشئة قلبت الموازين، وغيَّرت من خريطة العالم، وفرضت نفسها كقوَّة ثالثة في الأرض؛ أو تستطيع أن تقول: إنها كانت القوَّة الأولى في الأرض في النصف الأول من القرن السابع الهجري. هذه القوَّة هي قوَّة دولة التتار أو المغول! وقد أدَّى ظهور هذه القوَّة إلى تغييرات هائلة في الدنيا بصفة عامَّة، وفي أرض الإسلام بصفة خاصة. فهي قوَّة همجية بشعة.. قوَّة بلا تاريخ، ظهرت فجأة، وليس عندها مخزون ثقافي أو حضاري أو ديني يسمح لها بالتفوُّق على غيرها؛ فكان لا بُدَّ لها من الاعتماد على القوَّة الهمجية والحرب البربرية لفرض سطوتها على مَنْ حولها.

فمن سُنَّة الله عز وجل أن يحدث الصراع بين القوى المختلفة، والتدافع بين الفرق المتعدِّدة.. ومن سُنَّة الله عز وجل كذلك أن الأقوياء المفتقرين إلى الدين لا يقبلون بوجود الضعفاء إلى جوارهم.. ومن سُنَّة الله عز وجل كذلك أنَّ الباطل -مهما تعدَّدت صوره- لا بُدَّ أن يجتمع لحرب الحقِّ.. ومن سُنَّة الله عز وجل كذلك أن الحرب بين الحقِّ والباطل لا بُدَّ أن تستمرَّ إلى يوم القيامة.

إذا وضعنا كل هذه السُنن في أذهاننا؛ فإننا يجب أن نتوقَّع تعاونًا بين التتار والصليبيين -على اختلاف توجُّهَاتهم وسياستهم ونظرياتهم- لحرب المسلمين. وهذا -سبحان الله- ما حدث بالضبط! أرسل الصليبيون وفدًا رفيع المستوى من أوربا إلى منغوليا (مسافة تزيد على اثني عشر ألف كيلو متر ذِهابًا فقط!) يُحَفِّزُونهم على غزو بلاد المسلمين، وعلى إسقاط الخلافة العباسية، وعلى اقتحام «بغداد» درَّة العالم الإسلامي في ذلك الوقت، وعظَّمُوا لهم جدًّا من شأن الخلافة الإسلامية، وذكروا لهم أنهم -أي الصليبيين- سيكونون عونًا لهم في بلاد المسلمين، وعينًا لهم هناك، وبذلك تم إغراء التتار إغراءً كاملاً.

وقد حدث ما توقَّعه الصليبيون.. سال لُعاب التتار لأملاك الخلافة العباسية، وقرَّرُوا فعلاً غزو هذه البلاد الواسعة الغنية بثرواتها المليئة بالخيرات؛ هذا مع عدم توافق التتار مع الصليبيين في أمور كثيرة؛ بل ستدور بينهم بعد ذلك حروب في أماكن متفرِّقَة من العالم، ولكنهم إذا واجهوا أُمَّة الإسلام، فإنهم يُوَحِّدون صفوفهم لحرب الإسلام والمسلمين، وهذا الكلام ليس غريبًا، بل هو من الطُرق الثابتة لأهل الباطل في حربهم مع المسلمين. تَعَاوَنَ قبل ذلك اليهود مع المشركين لحرب الرسول صلى الله عليه وسلم مع الاختلاف الكبير في عقائد اليهود عن عقائد المشركين، بل تعاون الفرس مع الروم على حرب المسلمين مع شدَّة الكراهية بين الدولتين الكبيرتين فارس والروم، ومع الثارات القديمة، والخلافات المستمرَّة والحروب الطويلة، وتعاون الإنجليز مع اليهود لإسقاط الخلافة العثمانية، ولاحتلال فلسطين، وزَرْع الكيان الصهيوني داخل هذه الأرض المباركة؛ مع شدَّة العداء بين اليهود والنصارى. وتعاون الروس مع الأمريكان في القضاء على ما يسمونه: «الإرهاب الإسلامي»؛ فسَهَّلت روسيا لأميركا حروبها في أفغانستان والعراق وفلسطين، مقابل أن تُسَهِّل أميركا لروسيا حربها في الشيشان، والضحية في الحالين من المسلمين.

إذن.. اتحاد أهل الباطل في حربهم ضدَّ المسلمين أمر متكرِّر، وسُنَّة ماضية. لذلك لا يستقيم أن يتعامل المسلمون بالمبدأ القائل: «عدو عدوي صديقي». بل لا بُدَّ أن يعرف المسلمون أعداءهم، ولا بُدَّ أن يعرفوا -أيضًا- أن عدوَّ عدوِّهم قد يكون -أيضًا- عدوَّهم؛ نعم قد تتمُّ التحالفات بين المسلمين وبين بعض الأعداء لأَجَلٍ معيَّن ولهدف خاص؛ ولكن ذلك يكون بلا تفريط في الدين، ولا تساهل في الحقوق، ويكون بحذر كافٍ، وإلى أَجَلٍ معلوم، لكن لا يصل الأمر أبدًا إلى الولاء والصداقة ونسيان الحقائق؛ التي ذكرها الله عز وجل واضحة في كتابه الكريم؛ حيث قال: "وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ" [البقرة: 120].

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى