الحاج عائش عوض سعيد.. آخر الفدائيين الكبار

> ذهب الذين تحبهم.. ذهبوا..
الحاج عائش عوض سعيد العقربي امتطى سحابة مواتية ورحل صامتا وصائما -أيضا- مع غروب شمس الإثنين 25 رمضان 1441هـ بعد أن كان ملء السمع والبصر في صنع التبدل التاريخي الذي ارتضاه غالبية الناس في هذه الأرض في العشرية الثورية من ستينات القرن الماضي.
لم يكن له إلا أن ينحاز لدواعي التغيير كأي شاب طموح عاصر تلك الفترة، لاسيما وبذور التكوين السياسي الوطني فيه مستقاة من مشتل حركة القوميين العرب أثناء دراسته في المراحل الأولى في (الشيخ عثمان) وعلى يد الشهيد نور الدين قاسم -رحمه الله- تحديدا.

وبيئة العقارب في (بير أحمد) هي عمق عدن الجيو/ إستراتيجي وبوابة الوصول إليها من مداخل البر المفتوح من لحج السلطنة حينها ومن بلاد الصبيحة أيضا.
ولكن الجغرافيا لا تتكلم إلا بلسان التاريخ، والتاريخ إجمالا يصنعه الرجال؛ فتغدو ناطقة الجغرافيا بالرجال وشاهدة على الأحداث. وهنا يكتظ المشهد الستيني بما تحت التراب وما تخفيه الأكمة وما تجلبه رياح التغيير بدءا من الممهدات للثورة بسرية العمل وصرامة الانضباط والاستقطاب ضمن خلايا محدودة العدد خفيفة العدة، ومن هنا تتجلى ملامح الشخصية الفدائية لعائش عوض سعيد الشاب، وتصقل هنا -هذه الشخصية- تحت سمع وبصر فدائي آخر من أبناء العقارب كبير بحجم المهام المعقدة التي اضطلع بها أثناء الثورة وسيرورتها الشهيد يوسف علي بن علي -رحمه الله- الذي كان كـ(رمية السهم) قادرا على الكر والفر والحركة المفاجئة والمناورة وإدخال الأسلحة والذخائر والقيام بالعمليات الفدائية، ولابد هنا من متلازمة في القرابة وفي العمل النضالي المشترك بين الرجلين، بخطى ورعاية من المناضل البارز الشهيد فارس سالم وتيح -رحمة الله عليه- بكل ذلك النضوج السياسي الذي عرف به والفكري التأصيلي الذي اشتهرت به حركة القوميين العرب.

فكان اختطاط السير وطنيا للثلاثة المقربين من بعض لا ينفي وجود آخرين بذات القرب أو بتلك الأصرة. لكن الأهم أن طاقات الفدائي عائش ربما كانت تجد في الثورة وخطها العسكري رغبة ذاتية ملائمة لطاقات القوة التي تكتظ في صدره واستعداد مبدئي للمجازفة وحتى الموت في سبيل الوطن، والقصص كثيرة هنا.
- من العمليات الفدائية وإدخال الأسلحة وتخزينها بعيدا عن الأعين، والسير في طريق محفوف بالمخاطر والموت أيضا.

- لن نجد ما يمنع الرياح أن تهب ثورية على الكل، وسوف نجد؛ ونحن نقارب المشهد من خارجه اليوم؛ وعلى بعد مسافة زمنية تقارب نصف قرن من الزمان، أن السلطان كان ثوريا كما هو حال السلطان علي عبدالكريم حتى قبل قيام ثورة أكتوبر في الجنوب؛ بينما شيخ العقارب محمود محمد فضل كان مع الثورة وإن بميول سياسية وطنية أخرى.

والعجيب؛ ونحن نسرد بعضا من قصة الفدائي عائش عوض سعيد، أن السجن الذي مكث فيه عامين تقريبا كان مدرسة في الثورية المفعمة بحب الوطن، يتولى الأعلى مرتبة تنظيمية بإدارة العمل السياسي من وراء أعين الحراس وتصدر التكليفات الفكرية والثقافية بأعلى قدر مما يتيسر من كتب ومنشورات وإبقاء المسجونين على صلة لا تنقطع بمجريات الثورة وتطوراتها.

عندما تكتمل مشاهد الثورة، بحلوها ومرها، بالاستقلال في 30 نوفمبر 1967م يستطيع الحكام الجدد لملمة الحالة العسكرية للفدائيين باستيعابهم ضمن مؤسسات رسمية قانونية عسكرية وأمنية، والانتقال من شرعية الثورة إلى شرعية الدولة، فيتولى عائش مهاما أمنية في لحج إلى جانب رفقته من الفدائيين والسياسيين أمثال علي جاحص وعوض محمد جعفر وأحمد سالم عبيد ومحمد عيدروس يحيى وغيرهم.

لكن البلاد انساقت إلى مزالق المراهقة اليسارية بانقلاب 22 يونيو 1969م تبعا لانشقاقات حركة القوميين العرب في بيروت التي تمخضت عن ظهور الجبهتين الشعبية والديمقراطية ذاتي الصلة القوية بالجنوب؛ وتبنيهما الأيديولوجية الماركسية في زعم أن الفكر القومي العربي قد هزم في نكسة حزيران 1967م ولابد من فكر جديد يقود المنطقة.

كان عائش عوض سعيد قد تبوأ منصبه الأمني (الشرطة) الجديد في عدن إلا أن المنصب لم يمنعه من الوقوف في وجه التيار العاتي الذي قاده سالمين وما أحدثه ذلك التيار من إجراءات فوضوية تمثلت في الانتفاضات الزراعية وقرارات التأميم وخفض الرواتب وتحرير المرأة.. إلخ.
ففي فورة ذلك النزق هجمت مجاميع غالبيتها من خارج (بير أحمد) واستولت على أراضي الفلاحين وصغار الملاك هناك والزج بهم في السجن تحت ذريعة أنهم إقطاعيون.

حشد عائش جموع الصيادين من الشريط الساحلي الذي يعرفه ويعرفه أهله جيدا إلى جانب الفلاحين والبسطاء ممن يعرفهم ويعرفونه جيدا، وفي حركة مباغتة هاجمت هذه المجاميع بقيادة عائش الدخلاء على المنطقة، جردت بعضهم من الأسلحة وهرب البعض الآخر، وأخذ الأسرى إلى جزيرة قريبة واحتجزوا هناك قبل أن يتم تسليمهم للقيادة السياسية في القصر المدور في التواهي، مما أثار غضب سالمين وحنقه من عائش متوعدا إياه، بينما انبرى رفقة عائش وعلى رأسهم فارس سالم بإجراء حوار مطول مع سالمين وعلي عنتر في رمال مدينة الشعب وتوضيح صورة الوضع الكارثي للانتفاضة الفلاحية التي صادرت وسجنت الفلاحين البسطاء ممن لا يمتلكون إلا أراضي صغيرة لا تجعلهم في خانة الاقطاع غير الموجود أصلا أو شبه الاقطاع.

في هذه الرمال الواقعة بين مدينة الشعب وبير أحمد، عاد سالمين قبل أسابيع من الإطاحة به؛ باحثا عن رفاقه الذين حذروه من السير في طريق النزعات اليسارية بعد حادثة انتفاضة بير أحمد الفلاحية، عاد إليهم بعد أن نسيهم طويلا وبعد أن اتضح له الفخ الذي نصب له، كان نادما كثيرا ولكن الوقت كان قد فات (ولات حين مندم).
تبرز صفحات مشرقة تمور بالحركة والفعل عندما نتحدث عن عائش عوض سعيد العقربي، وهو يلازم الشخصية الوطنية الكبيرة الأستاذ سالم زين محمد الذي كان في مرمى التصفيات الجسدية في السنوات السوداء من عقد السبعينيات الماضية.

كان الوضع الحرج لسالم زين لا يمنع مناضلا مثل عائش أن يكون عينه التي ترى وأذنه التي تسمع ملازما له وقريبا دائما منه.
وبدهائه المعروف استطاع سالم زين أن يحصل على دعوة باسمه لحضور مؤتمر للأدباء الآسيويين والأفارقة في القاهرة إلى جانب عمر الجاوى وآخر، وأسقط بيد الرفاق فسمحوا له بالمغادرة مكرهين، وذهبت الرفقة الطيبة لوداعه ومنهم عائش الذي انتحى به سالم وسارره:
"لا تغادر إذا ما الطائرة أقلعت فهؤلاء لا يأمن أحد جانبهم قد يطلبون من الطائرة العودة بعد خروجكم". وهكذا غادر سالم زين أحد أبرز قياديي حركة القوميين العرب والجبهة القومية ثم جبهة التحرير بعد الدمج في يناير 1966م السياسي والإعلامي المتميز والأديب الشاعر، غادر تحف به كوكبة من المناضلين وهم جيرانه في السكنى بمدينة الشعب منهم أحمد سالم عبيد وفارس سالم وعوض محمد جعفر ومحمد عيدروس يحيى وعائش عوض سعيد.. وربما هناك أشخاص لا أعرفهم فلهم المعذرة مني أحياء أو موتى.

ومن موقعه في أمن العاصمة عدن يلتقط عائش عوض سعيد برقية فحواها (تم اعتقال حسين الجابري والمطلوب اعتقال محمد عيدروس يحيى).
هب من ساعته إلى رفيقه المطلوب ونقله إلى مكان آمن لا تصل إليه مخالب القطة التي شرعت تأكل أبناءها.

ظل محمد عيدروس متخفيا تتكفل بحمايته الرفقة الطيبة لمجموعة مناضلي مدينة الشعب وبير أحمد حتى تم خروجه سالما إلى الشمال بمساعدة الأستاذ أحمد السقاف السفير بوزارة الخارجية الكويتية.
ساقت عائش الوظيفة الرسمية إلى شركة الطيران (اليمدا) فزار عديد الدول وتولى العمل في محطة بومباي في الهند ليحولها إلى ربحية بعد الديون التي كانت عليها، وتولى مكتب صنعاء إلى ما بعد الوحدة 1990م، وسوف يستوقف المرء مهارته الفطرية في العمل واكتساب المعرفة بوزن وأحمال الطائرة وهو الذي لم يتأهل علميا في هذا الأمر.

كان لي وصديقي د.سعيد أحمد جيرع حظا من الجلوس معه والاستماع إليه على مدى خمس سنين، شاركنا في جزء منها الأستاذ أحمد سالم عبيد قبل أن يضطر للبقاء في بيته.
كانت (الجمعة) أحب إلينا من كل الأوقات لاجتماعنا لسويعات بهذا الرجل النادر، ندخل في التاريخ ونقلب صفحاته ونعرج على الأدب والفن والوضع القائم، نستخلص عصارة ما لديه دون أن يبخل يوما بتوجيه النصح إلينا أو حتى ردعنا عن موقف معين من موقع الأب الذي يحب ابنيه.
ولا يكتفي الحاج عائش بذلك بل يردفه بالاتصالات الدائمة ومنها اتصاله الأخير الذي حمل إلي نبأ وفاة المهندس طه زين أبوبكر السقاف أحد رفاقه السابقين والقريب صلة رحم بي، وكانت آخر كلماته (أنا تعبان.. أنا مريض) لتتكفل الشبكة بإيقاف الصوت الذي لطالما سمعناه وسمعناه.

وداعا الحاج عائش عوض سعيد العقربي، الرجل المناضل والإنسان.. وإلى جنة الخلد.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى