قراءة بانورامية في التمازج والتأثير الثقافي المتبادل بين حضرموت وعدن ولحج والعكس

> محمود المداوي

> لحضرموت في أفئدة أهل عدن محبة ضاربة الجذور في تاريخ هذه المنطقة بتلك الأسفار البرية والبحرية التي ذاع صيتها في القرون البعيدة والتي عمقت كثيرا من الصلات التجارية وأيضا الإنسانية وأواصر القربى والنسب التي كانت تتقوى وتزدهر يوما بعد يوم.

في عدن اليوم، وكما يحكي لنا الأجداد والآباء في مجالسهم ومسامراتهم اليومية، عاشت عائلات حضرمية من مختلف المناطق والبلدات الحضرمية فذاع في عدن العبدلية وإلى يومنا هذا صيت عائلات مثل: آل باوزير وآل بلجون وآل السقاف وآل باسودان وآل بازرعة وآل بامدهف وآل باجنيد وآل الكاف وآل بلفقيه وآل باشراحيل وآل باشامخ وآل باعباد وأل بومهدي، وعديد العائلات التي أسست لها إرثا ثقافيا مد وعمق أواصر وجسور هذه العلاقات، بل وعززها وإلى يومنا هذا في عدن العبدلية بأمشاج عربية نقية طاهرة ربطت شرق بحر العرب من حضرموت إلى غربه في عدن وباب المندب.

لا أحد منا اليوم يستطيع أن يتجاوز حقائق الجغرافيا والتاريخ بين حضرموت وعدن وأيضا لا يمكن لنا أن نتجاهل حقيقة التأثير الثقافي بينهما لاسيما في مجال الفن فللأغنية الحضرمية حضورها في الديار العدنية ومنذ أمد بعيد، ولها مكانتها في مجالسهم الخاصة والعامة على حد سواء.
يذكر أن حفلات الزواج أو ما يسمى في عدن ولحج وما جاورهما بـ "المخدرة" لا يمكن أن تخلو هذه الاحتفالية من الأغنية الحضرمية التي غالبا ما تكون فاتحة شهية لمثل هذه الأفراح ومكملة لبهجتها التي تتناغم مع باقي الألوان الغنائية الأخرى المعروفة في الوطن وخارجه.

وما دمنا هنا بصدد الحديث عن التأثير الثقافي وذلك التمازج بين الأرومة العربية الحضرمية والأرومة العربية لعدن العبدلية برزت في خمسينيات القرن الماضي تلك العلاقة الوطيدة بين عائلة آل أمان العدنية وعائلة آل بلفقيه الحضرمية من خلال الثنائي الخالد بين الشاعر والأديب الكبير المرحوم الأستاذ لطفي جعفر أمان والموسيقار الكبير العملاق سفير الأغنية الحضرمية الدكتور أبوبكر سالم بلفقية في أكثر من لحن وأغنية لازالت أذاننا تستمع إليه باستمتاع منقطع النظير.

وبحسب أرشيف وتأريخ الفن والأدب في عدن نذكر اسم الشاعر الكبير أحمد بومهدي الذي عاش في عدن وفيها قدم جل قصائده التي تغنى بها عدد من فنانات وفناني عدن، كما أنه من النساء ومن جذور حضرمية برزت عائلة آل باسودان من خلال صوت الفنانة رجاء باسودان.

كما برز فنانون آخرون كبار من رحم تلك العائلات الحضرمية في عدن نذكر منهما على سبيل المثال وليس الحصر الفنان الكبير سالم عوض بامدهف والفنان والمذيع العالمي عبد الرحمن باجنيد، ولا يمكن لنا أيضا أن ننسى الفنان محمد سالم بن شامخ رحمة الله عليهم جميعا، وفي سبعينيات القرن الماضي برز من خلال اذاعة عدن المذيع والفنان عبد الرحمن الحداد، غير تلك الزيارات التي كانت تتم لعدد من فناني حضرموت لعدن وأروقتها الفنية ونذكر فنانين أمثال أبوبكر التوي، والفنان المهجري باحشوان وأيضا الفنان الكبير كرامة مرسال.

وحتى تكتمل هذه الفراءة البانورامية التأريخية والفنية حري الإشارة إلى المرحوم الفنان الكبير محمد سعد عبدالله وحضوره اللافت في الأغنية الحضرمية والذي كان يختارها بعناية من سفر الأغنية الحضرمية الخالد ليفتتح بها حفلاته، وله تسجيلات فيها لإذاعة عدن.

ونود الإشارة هنا إلى بروز أسماء من أصول عائلية حضرمية في الفضاء الثقافي والإعلامي لعدن مثل آل بلجون ومنهم محمد عمر بلجون وفوزية بلجون وعبدالرحمن بلجون وأمل بلجون، وهناك من آل باعباد المذيع فيصل باعباد الذي يعمل حاليا في إذاعة دولة الإمارات العربية المتحدة وأيضا الإعلامية المذيعة فوزية باسودان شقيقة الفنانة رجاء باسودان، كما لا يمكن أن نغفل احتضان عدن للفنان الموسيقار أحمد بن غوذل الذي اجتهد موسيقيا من عازف في فرقة اعتيادية إلى فائد فرقة الإنشاد الجنوبية وله فيها باع طويل كملحن ومؤلف موسيقي يشار إليه بكل احترام وتقدير.

وستمضي بنا هذه القراءة البانورامية إلى لحج العبدلية والأم الرؤوم لعدن... إذا نحن هنا في لحج القمندان.. لحج الفن والطبيعة الخلابة التي حباها الله بها لتكون مصدر الهام لرائد نهضتها الثقافية والفنية وشاعرها وفنانها ومؤرخها الكبير الأمير الراحل أحمد فضل بن علي محسن العبدلي (القمندان).. لحج التي أنجبت أساطين الشعر والطرب والغناء.. لحج الممتلئة بحب الحياة والإنسان والتي كان لها بامتدادها الجغرافي الطبيعي إلى عدن جنوبا ويافع في شمالها الشرقي هجرات متبادلة ومبكرة من وإلى والعكس أصح كما سنتابع هنا وفقا لمعلومات ربما تكون مفاجئة وجديدة لمن يتابع هذا البرنامج.

تشير كثير من الحقائق المعروفة على أرض الواقع أنه تمت وفي فترات تأريخية مبكرة ما يمكن لنا أن نطلق عليه بالهجرة الداخلية من حضرموت إلى لحج التي تتواجد فيها كثير من العائلات التي مازالت أسماؤها الحضرمية ولاسما تعرف به وفي بلدات كبيرة في لحج وتحديدا في بلدات مثل الوهط والحمراء وعبر بدر التي تقطنها عائلات آل السقاف وآل شهاب وآل شاطري، كما أن هناك بلدة لحجية بأكملها هي بلدة الثعلب اللحجية عرفت باسم وادي الحضارم وتسكنها عائلات آل كرو وآل قيسي.

ولابد لنا ونحن في هذا اللقاء الحافل أن نذكر أن للهجرة الداخلية المتبادلة أسبابها وظروفها الذاتية والموضوعية فهذه يافع الواقعة شمال شرق مدينة حوطة لحج تسجل حضورها في الخارطة الحضرمية وعلى مستويات عدة ولنا في قبائلها وعائلاتها أمجاد وآثار نذكر منهم آل القعيطي وآل الكثيري وآل السعدي وآل بن بريك، وغيرها التي أسهمت في بناء النسيج الحضرمي في الماضي والحاضر والمستقبل.

كان لابد من هذه الإيضاحات للولوج في صلب وجوهر موضوعنا وهو التأثير الثقافي المتبادل بين حضرموت ولحج العبدلية، وهو ذات التأثير الذي تمثله الحضرمي المكافح في عدن من خلال أدواته التي عرف بها في كل الأصقاع التي حل بها وهي البساطة والتواضع والسماحة والوداعة والأخوة والمعاملات النقية التي بوأته لذلك من روح ديننا الإسلامي الحنيف وحافظ عليها في حله وترحاله وأين استقر به المقام.

وكعدن كانت لحج تحتفي بهذا الإنسان الحضرمي وتحتضنه حد العشق، فطابت أفراح لحج ومخادرها للجنسين ومجالسها الخاصة والعامة بالغناء والشرح الحضرمي واللحجي على حد سواء وبرز هنا من الأسماء الغنائية ذات الجذور الحضرمية، وفي ثلاثينات القرن الماضي اسم لفنان يدعى صابور ناصر، رحمه الله، بحسب تسجيلات شركة أسطوانات (بي بي فون) الفنية في عدن التي حملت أيضا كثيرا من أغاني فنان لحجي مرموق آخر وينتمي إلى حضرموت أصلا ولحج نشأة ونقصد هنا الفنان المرحوم عوض عبدالله المسلّمي.

نشير هنا إلى أن فنان لحج الكبير فضل محمد اللحجي كان يحرص في جلساته الفنية على غناء مختلف ألوان الغناء المعروفة في منطقتنا والمنطقة العربية ومن بينها الأغنية الحضرمية التي كان، رحمة الله عليه، يحسن اختيارها من كنوز التراث الفني في حضرموت الحبيبة.
نعرف أن هنا تلهف وترقب ورصد مشروع لمعرفة ما إذا غنى الفنان اللحجي ذائع الصيت والشهير المرحوم فيصل علوي اللون الحضرمي أم لا؟ وما إذا كان قد أجاد هذا اللون أو أنه أخفق فيه؟...

أقول وعن ثقة ومن مصادرنا السمعية المحفوظة في إذاعتي عدن ولحج وغيرهما، نعم لقد غنى هذا العملاق الأغنية الحضرمية كما أنه أجادها وأبدع فيها، ويخال لنا ونحن نسمعه أننا مع هامة فنية من حضرموت ومثالنا هنا عديد الأغاني لعل أشهرها هي باسألك يا عاشور.

ويتصل الكلام ويتواصل في هذا المقام الذي لا يمكن لنا أن نقفز فيه أو نتجاوز حقيقة هذا التمازج والتأثير المتبادل بين حضرموت ولحج العبدلية التي كانت تحتضن بساتين الحسيني ما يشبه الكرنفال السياحي الفني سنويا ولمدة يوم واحد كامل وهو اليوم المعروف شعبيا في لحج باسم "آخر ربوع في صفر" والذي كانت تستعد له العائلات العدنية والحضرمية واللحجية فيحيون نهارا جميلا بين الفل والورد وأعذب الأنغام الحضرمية واللحجية والهندية، وكما حدث التناغم والانسجام الفني بين الفنان الراحل أبوبكر سالم بلفقيه والشاعر الراحل لطفي جعفر أمان حدث أيضا انسجام وتوافق بين شاعر لحج المرحوم عبدالله هادي سبيت والفنان الراحل عبد الرحمن باجنيد في أكثر من أغنية.

وفي الاتجاه الآخر نجد أن الفنان الشاب عبود زين الخواجة (السقاف) قد عشق الإيقاع الحضرمي فهام به في جلسات غنائية طربية داخل الوطن في لحج وحضرموت وأيضا في أرض الاغتراب ولم لا فلابد أن حنين ونداء الوفاء لأرض الأجداد تملك وجدانه وكل كيانه فغنى وغنى وشدا من أعماق فؤاده المرهف فأجاد الأغنية الحضرمية بشهادة أهلها وعلى رأسهم الموسيقار أبوبكر سالم بلفقيه.

من الوقائع والحقائق التي لا يمكن إغفالها أن نذكر أن للفنان أبوبكر سالم بلفقيه جلسات فنية مع الشاعر عبدالله هادي سبيت في ستينيات القرن الماضي في مدينة عدن أثمرت عن أداء الفنان الكبير بلفقيه الأغنية اللحجية الشهيرة لابن سبيت وهي أغنية (سألت العين) وجدد الفنان الراحل أبوبكر سالم علاقته بزيارته للحج وبساتينها الشهيرة في الحسيني حيث سجل معه الإعلامي الراحل عبدالقادر خضر سهرة فنية لتلفزيون عدن.

ينبغي لنا في ختام هذه الحلقة أن نشير إلى أن الباحث والأديب الحضرمي جعفر باوزير كان له شرف حضور المهرجان الثقافي الأول للقمندان في لحج في عام 1988م من القرن الماضي، وكانت له دراسة هامة كتبها عن القمندان وعن الفن في لحج وحضرموت والتأثير المتبادل بينهما قدمها في ندوة ثقافية خاصة احتضنتها قاعة جلية ناصر للعلوم الزراعية - جامعة عدن- آنذاك، ويمكن الرجوع لهذه الدراسة القيمة للإفادة والاستفادة في أي وقت لنا وللأجيال من بعدنا. وحتى لاننسى ينبغي الإشارة إلى أن عراقة المدرسة الروحية الحضرمية امتدت إلى لحج وعدن، وهذا يتجلى في وجود عديد الطرق الصوفية التي لها حضورها وإلى يومنا هذا.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى