الشراكة السياسية بين المركز والأطراف شرط الاستقرار والازدهار

> د. حمود العودي

> انطلاقاً من اليقين العلمي للمعادلة الاقتصادية الاجتماعية التي تؤكد انتماء اليمن إلى مناطق إنتاج الفائض الاجتماعي الاقتصادي الأقل بجهد أكبر، والذي سينجم عنه بالضرورة مساواة أكثر واستبدادا أقل؛ فإن البداية تأتي من أنه إذا كان ذكْر اليمن أو تذكُّرها حضارياً وتاريخياً يقترن في الفهم العام المحلي والقومي والعالمي بالسدود ومنظومات استخدام المياه والمدرجات وعمران الطرق والحصون والمُدن الراقية من الناحية المادية، وبالتعاون والشراكة السياسية بين الحاكم والمحكوم، وعقلانية التفكير والسلوك من الناحية السياسية والروحية؛ فإن ما نودّ التركيز عليه هنا وفي هذه الحلقة من البحث في الهوية العلمية والاستراتيجية للثقافة الوطنية اليمنية هو: تحويل الانطباعات والمفاهيم العامة إلى حيثيات ومفردات علمية ويقينية مدروسة بدرجة من البحث والتعمق الذي يسمح بحصر وتحديد هذه السِّمات والمكونات الخاصة في الثقافة الوطنية اليمنية من جهة، وبلورة مضامينها ودلالاتها الموضوعية المباشرة وغير المباشرة من جهة أخرى؛ بحيث يمكن اعتمادها كأساس علمي وموضوعي لتحديد الهوية الثقافية الوطنية للمجتمع اليمني بصفة عامة، وتعريف النشء والشباب بهذه الهوية المدروسة علمياً، والمتفق عليها وطنياً، والانطلاق من خلالها في فهم وبناء الأنا والتفاعل مع الآخر، بدلاً من المحاولات المرضيّة لتضخيم الذات والانطواء عليها، أو المحاولات العكسية المشبوهة لإلغاء الهوية الذاتية أو تهميشها ومحاولة فرض مفردات ومكونات ثقافية لا علاقة لها أو صلة بواقعنا وهويتنا الثقافية المستمدة من طبيعة المكان وظروف ومصادر العيش التي نحصل عليها من خلالها، والمراد تغييبها في أتون النزاعات المرضيّة المتطرفة يميناً أو يساراً، وشرقاً وغرباً، وشمالاً وجنوباً.

وفي ضوء كل ما سبق يمكن حصر ومركزة مجمل مفردات وعناصر المكونات الخاصة بالثقافة الوطنية اليمنية وثوابتها المستمدة من طبيعة المكان وأسباب ظروف معيشة الإنسان عليها؛ باعتباره المتغير الأساس والموضوع الأول في تحديد مفردات وعناصر أي ثقافة بما فيها الثقافة الوطنية اليمنية كمتغير تابع لظروف المكان والزمان فيه، والمجملة في ثمانية مكونات أساسية هي: "الشراكة السياسية في السلطة بين الحاكم والمحكوم، والتعاون الفردي والجماعي، واحترام العمل كقيمة اجتماعية رفيعة، ونديِّة التعامل الشخصي، وعقلانية التفكير والسلوك، ومرونة التفاعل مع الآخر، ورفض الأمر الواقع، ثم الاستقرار وعدم الاستقرار السياسي"، والمفصلة مضامينها النظرية ودلالاتها الموضوعية في البنود التالية:

1- الشراكة كشرط للاستقرار والازدهار والعكس صحيح
ربما تكون هذه المفردة الحضارية والثقافية هي من أبرز صفات وثوابت الهوية الثقافية الوطنية للمجتمع اليمني في الحاضر والماضي على السواء، وأكثرها شيوعاً في الفهم العام والخاص محلياً وإقليمياً وقومياً بل وعالمياً، وأحد السمات الأبرز المقترن ذكرها أو تذكرها دائماً بذكر اليمن حضارة وتاريخاً على الأقل، ويكفي دليلاً على حقيقة هذه الشراكة ما أكدته الحقائق والحيثيات الموضوعية من جهة، والوقائع التاريخية والدينية من جهة ثانية، والمفصلة في ما يأتي:

أ- الدلالات المادية والموضوعية
إن مئات بل الآلاف من النصوص المسندية والقرائن والمأثورات المادية المختلفة قد سجلت وأكدت هذه الحقيقة المتعلقة بالشراكة السياسية الديمقراطية بين الحاكم والمحكوم في اليمن كشرط إلى الاستقرار والازدهار والعكس بالعكس صحيح؛ بقدر ما سجلت وأكدت خلافها أوعكسها بالنسبة لكثير من الحضارات والثقافات الأخرى التي عاصرتها زماناً ومكاناً، فنظام المزاود المحلية المنتخبة والثابتة في تاريخ وثقافة المجتمع اليمني القديم كنظام سياسي واقتصادي واجتماعي شامل ومتكامل قد عكس إلى حد كبير ليس مجرد الحق السياسي في شراكة القاعدة في صنع القرار مع القيمة بل وتقرير وإدارة الكثير من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية المتعلقة بالمزاود أو المحليات، حيث كانت هذه المزاود المحلية المنتخبة هي المفوضة من القاعدة التي انتخبتها في كل مزود بإدارة الشأن المحلي اقتصادياً واجتماعياً إلى حد كبير بدءاً بتنظيم حيازة الأرض الزراعية واستثماراتها العائلية والجماعية، مروراً بتنظيم الحِرَفْ والمهن الصناعية والتجارية، وانتهاءً بتنظيم الحقوق والواجبات المتعلقة بأفراد المزود تجاه بعضهم من جهة وتجاه الدولة المركزية من جهة أخرى، بدءاً من حيازة الأرض محلياً وعشورها المستحقة للدولة المركزية وحتى أدق تفاصيل الحياة الاجتماعية والسياسية والعسكرية المتعلقة بنظام الخدمة العسكرية الإلزامية في الجيش الوطني للدولة.

حيث لم يكن يتوقف دور المزاود المحلية على تنسيق هذه المهمة بالنسبة لمن يتوجّب عليهم أداءها من الشباب والمحاربين مع الدولة المركزية فحسب، بل والاحتفاظ بحقهم في تحديد من ينوب عنهم في أعمالهم الزراعية في التصويت في انتخابات المزاود ومداولاتها في تقرير كل ما يتعلق بالشأن المحلي أو الشأن الوطني العام أثناء غيابهم في أداء الخدمة العسكرية العامة، ناهيك عن الوظيفة السياسية العامة الأكثر أهمية لهذه المزاود؛ كحلقة وصل بين الدولة المركزية ومجتمعات المزاود كمصدر للتشريع وتمثيل حقوق وواجبات هذه المجتمعات تجاه الدولة من جهة، وحقوق وواجبات الدولة تجاه المجتمعات المحلية من جهة أخرى، وبإيقاع توازن سياسي واجتماعي قلّ ما نجد له مثيلاً في معظم الحضارات والثقافات القديمة المعاصرة لمراحل التاريخ المزدهرة في اليمن قديماً، فالحقيقة التي يجب أن نسلّم بها مقدماً كما يقول نيكلوس وآخرون: "هي أن تلك البلاد اليمن عرفت نظاماً يتكون من مجالس تمثّل الشعب تمثيلاً نيابياً".

وإذا كان ذلك هو ما يتعلق بآلية الشراكة السياسية الديمقراطية في القاعدة مع نفسها ومع القمة المتعلقة بإدارة الدولة المركزية، فإن هذه القمة أو البنية الفوقية للدولة والمجتمع لم تكن أقل حرصاً وتجسيداً لمبدأ الشراكة السياسية الديمقراطية مع نفسها ومع البنية التحتية أيضاً؛ حيث كانت بنية الدولة المركزية العليا تتكون من مجالس إقليمية في منتصف الهرم الإداري للدولة، والتي تتكون من ممثلي "المزاود" المنتخبين والتي تسمى بالأقاليم أو المخاليف التي تحتفظ بتسميتها وحدودها الاجتماعية حتى اليوم.

وفي قمة الهرم الإداري والسياسي يتكون مجلس أعلى يسمى بمجلس "المزود" وهو مجلس منتخب ممثلي "المزاود" المحلية والأقاليم الرئيسية؛ يرأسه الملك المنتخب أيضاً من بين أعضائه، وتتركز مهام هذا المجلس على الشأن الوطني العام بالدرجة الأولى بدءاً بتنظيم العلاقة بين "المزاود" المحلية والإقليمية الأكبر "المخاليف"، مروراً بإقامة وتنظيم وإدارة المشاريع الاقتصادية والخدمية الوطنية القومية العامة من السدود والحصون وقنوات الري الكبرى والطرق ومناجم التعدين والصناعات الرئيسية، وانتهاءً بتنظيم التجارة الداخلية والخارجية وتأمين طرقاتها البرية والبحرية؛ إلى جانب مسؤولية الأمن والدفاع الوطني بالدرجة الأولى؛ حيث يذكر جواد علي "بأن الحكومة القتبانية فرضت نفسها على التجارة فجعلت أمر الاستيراد والتصدير في يدها، وأنها وضعت ونظمت التعليمات الدقيقة التي تكفل سلامة أموال الدولة وأموال الناس على حدٍ سواء".

وكل هذا كان يتم في سياق منظومة متكاملة ومتطورة جداً من التشريعات والقوانين التي تضاهي أحدث التشريعات المعاصرة، كما يقول جواد علي أيضاً، والتي كانت تبدأ بمداولات مجالس "المزاود" المحلية، ثم مجالس الأقاليم والمخاليف، فالمجلس المزود الأعلى ثم تُصْدر باسم الملك التي كانت سلطته أقرب إلى الملكية الدستورية المعاصرة؛ حيث كانت سلطته مقيدة بسلطات مجلس "المزود" ومجالس المزاود المحلية والمخاليف التي كانت تقترح القوانين وممثلي الأقاليم الذين عُرفوا فيما بعد في أواخر الدولة الحميرية بمجلس "الثمانية" أو "المثامنة" والتي لم تكن لديهم السلطة الجماعية لإقرار القوانين والتشريعات قبل أن تُصدر باسم الملك فحسب، بل وسلطة تقرير وضع الملك نفسه، فهم كما يقول يوسف عبد الله "إذا أجمعوا على إبقاء ملك أبقوه أو عزله عزلوه". ويضيف يوسف عبد الله: إن الملك لا ينفرد باتخاذ القرارات ويؤكد ذلك ما عُرف عن مجالس حكومية في دول اليمن القديم.

ب- الوقائع والدلالات الإسلامية
ومن الحقائق المادية والموضوعية قبل الإسلام إلى الوقائع التاريخية والدلالات الدينية بعدها، حيث تؤكد الوقائع والحيثيات المتعلقة بالتاريخ العربي الإسلامي كل ما سبق الحديث عنه عن الحيثيات المتعلقة بهذه الشراكة السياسية الديمقراطية في صنع واتخاذ القرار بين البناء الفوقي للدولة، والبناء التحتي للمجتمع اليمني القديم، ومصداق ذلك ما جاء في القرآن الكريم على لسان ملكة سبأ، حينما أتاها كتاب سليمان المتوعد فعرضته على الشعب وممثليه في مجالس "المزاود" المحلية والإقليمية ومجلس المزود الأعلى ولم تنفرد بالقرار قائلة: {يا أَيُّهَا الْمَلاَُ أفتوني في أمري مَا كُنتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ* قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالاَْمْرُ إِلَيْكِ فانظري مَاذَا تَأْمُرِينَ* قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أهلها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ}، في حين كان فرعون مصر ونمرود بابلي وبرهامن الهند يتألهون فوق شعوبهم وينكلون بمن يدعي وجود إله سواهم وأن الناس ما خلقوا إلا للعبودية وعبادتهم، ويكفي دليلاً على حقيقة ديمقراطية وشراكة اليمنيين في السلطة بين الحاكم والمحكوم في اليمن، ورقي وتقدم معدات تشريعاتها وقوانينها السياسية والاقتصادية والتجارية بالذات؛ أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، بعد وصول الإسلام إلى اليمن ودخول أهلها فيه طواعية قد أقر معظم التشريعات الاقتصادية المتعلقة بحدود مقدار الزكاة المتعلقة بعشور الأرض الزراعية وعصب التجارة ونحوها، استناداً إلى تشريعات يمنية قديمة، حددها برسالة تفصيلية بعث بها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن، لأن عشور الأرض الزراعية والزكاة على الأعمال التجارة المقدرة ب2.5% وتلك قوانين وتشريعات يمنية قديمة، والتي لا تزال مخطوطة بخط المسند على مسلّة صخرية ضخمة في بيحان بمنطقه يمت حتى اليوم، وكان مما استحسنه الإسلام من سنن الأولين في التشريعات اليمنية قد أحاله الرسول إلى قوانين وضعية فيما يتعلق بأحد أهم أركان الإسلام الخمسة وهي الزكاة، ويكفي حضارة وثقافة اليمن ذلك شرفاً في إسهام الأولين من أبنائها في دين وتشريعات الآخرين.

2- الشراكة السياسية أصل حضاري وليست مجرد عارض سياسي
وفي ضوء كل ما سبق فإن كل ما يدعو إليه الناس من رفض التسلط الفردي أو الطائفي أو الديني أو السلالي، والتمسك بالنظام المدني الجمهوري الوطني الديمقراطي واللا مركزي؛ القائم على الشراكة السياسية في السلطة والثروة بين القمة والقاعدة والمركز والأطراف هي أصول حضارية وثقافية في تاريخنا، وضرورة من ضرورات وجودنا الاجتماعي وليست عارضة أو مستوردة كما يروج البعض، وأن العارض والدخيل هي الطائفية والقبلية والمناطقية والدكتاتورية.

• خاصية الشراكة السياسية وعلاقتها بالمكان والزمان
أما لماذا هذه الخاصية الأكثر بروزاً في حضارة وثقافة المجتمع اليمني قديماً وحديثاً مقارنة بغيره من الحضارات والثقافات الماضية على الأقل، فيكفي القول هنا: بأنها لم تكن خاصية بيولوجية أو عنصرية اختص بها الله أهل اليمن دون سواهم؛ لأن الله قد خلق الناس جميعاً سواسية كأسنان المشط؛ بقدر ما هي خاصية اجتماعية واقتصادية تتعلق بطبيعة تكوين البيئة والمكان الذي قُدّر لهذا المجتمع أن يعيش عليه، وما يتصل به من مصادر العيش الأقل وفرة والأكثر اضطراباً ومدعاة للعمل الأكبر مقابل عائدٍ أقل؛ إن علاقة هذه بتلك فذلك ما يمكن الرجوع فيه إلى منطق ودلالة المعادلة الثانية من حيث التنوع الحضاري والثقافي في الحلقة الأولى، ودور المكان في ذلك والخاصة بمناطق إنتاج الفائض الأقل بجهد أكبر من الناحية العملية، والتي ينجم عنها بالضرورة وجود اجتماعي يتميز بمساواة أكثر واستبداد أقل، والتي تنتمي إليها طبيعة الظروف المكانية الاقتصادية والاجتماعية لليمن الممثلة خير تمثيل، لأن محدودية الموارد لا تعلم الإنسان فضيلة المساواة فحسب، بل بضرورة التعاون.

"نيوزيمن"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى