بين التدوير والتغيير

> يقال في الأمثال إن من لا ماض له لا حاضر له. وكذلك يقال إن اليوم هو ابن الأمس، والمثلان من حيث المبدأ لا يجافيان الحقيقة. غير أن صحة كل منهما ليست مطلقة القياس. فمن زاوية يمكن أن نفهم أن ما يحدث اليوم من فعل أو عمل مفيد، خيرا كان أم شرا، لا بد وأن تكون له نتيجة مطابقة في الإشارة سواء كانت موجبة أم سالبة، وإن لم تحدث النتيجة اليوم فستحدث غدا أو بعد غد أو بعد سنة أو أكثر من ذلك أو أقل، لذلك تفسر هذه الحقيقة من خلال استقراء الأفعال ومردوداتها على المديين القصير والطويل الأمد.

وإذن ففي زمننا هذا الذي فقد الزمان رتابته وأصبحت للثانية الواحدة أو الساعة الواحدة أو اليوم الواحد قيمة قد تترتب عليها نتائج عظيمة، قد تغير الحال من وضع معين إلى آخر سلبا أو إيجابا سواء بالنسبة للفرد أو للأمة. نعم هناك ترابط جدلي بين الأمس واليوم، ونعني بالأمس واليوم ليس تحديدا المعنى الحرفي ولكن بالمعنى التقريبي. فيقال على سبيل المثال بين جيل الأمس وبين جيل اليوم فوارق نوعية لا يخطئها ذو بصيرة. ونفس ما ينطبق على الأفراد والأمم بالنسبة لأهمية الزمن وتداخله ينطبق على السياسة والمشتغلين بها و فيها. بل إن أهمية الزمن لدى السياسيين ينبغي أن ترتفع في قيمتها، لأن مترتبات ذلك ستنعكس على مصير الأمة.

نستنتج مما ذكرناه عاليه أن المشتغلين بالسياسة من الأجيال السابقة يختلفون بل يجب أن يكونوا مختلفين في النوع والرؤى واستقراء المستقبل عن قرنائهم من الشباب، الذين يتطلعون لأداء سياسي مختلف لأنهم أبناء زمن آخر. فالقدماء أبناء زمنهم وأبناء أفعالهم التي قاموا بها والتي أصبحت بمرور الزمن قيودا على أفعالهم، وتحديدا تلك الأفعال السياسية الخاطئة التي ارتكبوها، كي لا يشذوا عن تناغمهم مع الماضي، فللبشر ذواكر لا تنسى. أما المحدثين فلا يزالون يكتبون أفعالهم السياسية متحررين من كل قيد يمكن أن يحد من قدراتهم على الفعل.

التغيير إذن سنة الكون وقانون من قوانين الطبيعة ومن يخالف قوانين الطبيعة أشبه بمن يحرث البحر. غير أننا في هذه البلاد المشدودة شدا إلى الماضي، ابتلينا بما يقترفه هؤلاء من الساسة المعتقين من المتلونين، والمتقلبين بين كل أطياف الفكر والمناهج السياسية، هؤلاء المتغيرون من السياسيين متعددي الشرائح هم من أوصل البلاد والعباد إلى هذا الوضع الكارثي ولا نعلم أي كوارث سيصلون بنا إليها في قادم الأيام.

إن هؤلاء الساسة من طينة الراقصين على رؤوس الأفاعي (يقصدون الشعب) حينما طالبهم الشعب بضرورة التغيير، لم يدركوا أهمية المطلب وحولوا مفهوم التغيير إلى ممارسة التدوير للسلطة كاستجابة لمطالب الشعب. فالتدوير يحفظ تركيب السلطة لهم فترى وزيرا يصول ويجول بين وزارات مختلفة في النوع والمهام وتبقى قوائم المتسلطين دون تغيير سوى في مسمى الوزارة أو الهيئة. إن عدد هؤلاء من ذوي النفوذ على مستوى البلاد لن يصل إلى ألف شخص يحكمون البلاد منذ 1962 في الشمال و1967 في الجنوب ويمارسون التدوير منذ سقوط الإمامة في الشمال والاستقلال في الجنوب وحتى يومنا هذا مع الأخذ بعين الاعتبار أن من توفاهم الله قد استبدلوا بأبنائهم أو إخوتهم أو أحفادهم فنظام الكوتة لديهم يعمل في كل الحالات. هذا النظام الكوتوي مفعل حتى في القوات المسلحة ومثلها الأمن الداخلي.. ائتوا لنا بمثيل لنا على مستوى العالم باستثناء الأنظمة ذات الحكم العائلي.

نحن نخشى أكثر ما نخشاه أننا بعد كل هذا العذاب وهذه المعاناة التي سلطت على رؤوسنا أن يولد نظام عائلي فاسد جديد نرى شواهد كثيرة تدلل على ذلك.. يتم فيها إعادة تدوير القمامة على رؤوسنا مرة أخرى. فينتج عن ذلك ولادة أجيال جديدة من فئران مؤذية مهجنة، في حين تمتلئ البلاد بالجرذان المعمرة التي تملأ المدن والأرياف وفي الأحياء والأزقة والحاراة تجدهم يمارسون أذية البشر والإضرار بمصالح الناس.

ختاما، أتذكر خبرا نشر في الصحف العام 1993 إبان احتدام الحرب الإعلامية بين الجنوب والشمال، وهو ليس خبرا بل مقابلة مع أحد المسؤولين الجنوبيين، حين سأله الصحفي عن رأيه في إمكانية إبعاد شبح الحرب وحل المسألة سياسيا.. فأجاب: علينا بإبعاد كل من وجد في الصورة المجسمة المعلقة في بهو القصر الجمهوري في صنعاء (ونشرت الصورة مع المقابلة في الصحيفة)، قال: علينا بتأمين معاشات لائقة بهؤلاء وعليهم مغادرة البلاد كل إلى البلد الذي يختارها.. وتسليم السلطة للشباب غير الملوثين، وحينها سنجنب البلاد الحرب. للمعلومية عدد من كانوا في الصورة - كما أذكر - من الشمال والجنوب لا يتجاوز المئة أو مئة وعشرين شخصا. أعتقد أن وصفة هذا المسؤول الجنوبي لا تزال صالحة للتنفيذ وقابلة لتجنيب البلاد كل هذه الشرور والمآسي.

نعم نحن بحاجة للتغيير ولكنه تغيير العقول، وليس لتدوير مخلفات العقول من سقط كل المراحل التي مرت بها البلاد وما أكثرها التي فقدنا فيها خيرة العقول إما قتلا أو نفيا أو إهمالا، حتى فقدوا كل ما يميزهم عن غيرهم وبعضهم يجوبون الشوارع يحملون عاهاتهم التي لا ترى، والله المستعان.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى