(في التعليم، المبتدأ والخبر)

> هناك مؤشرات ومعايير اقتصادية وصحية وعلمية وتعليمية وإنتاجية واستهلاكية، اتفق عليها الخبراء في المنظومات الدولية، يتم من خلالها تصنيف الدول، وتعكس مدى الرقي والتحضر الذي وصلت اليه تلك الدول أو العكس، إذ تبين مدى تخلفها في كل مجال من المجالات الحياتية. فمثلاً نصيب الفرد من الدخل أو الناتج القومي لبلد يعكس المستوى المعيشي للفرد في هذه البلاد أو تلك. أو كمثال آخر: مقدار ما يستهلكه الفرد من الطاقة الكهربائية أو المياه النقية أو كم هي نسبة الأسرة أو عدد الأطباء المتوفرين لخدمة كل ألف فرد من السكان كلها مؤشرات تدل على التطور المعيشي لهذه البلاد أو تلك. وبالنسبة للتعليم فهناك مؤشرات إحصائية كمية، كمعرفة عدد الملتحقين بالعملية التعليمية، من إجمالي العدد الكلي لمن هم في سن الالتحاق بالمدارس. أو مثلاً أعداد المتسربين خلال مراحل الدراسة الأساسية والجامعية، فهذه مؤشرات تدل على وجود ثغرات في المنظومة التعليمية، أو اختلالات في التركيبة المجتمعية تمنع حصول النشء على تعليم منتظم بيسر وسهولة. وهناك المؤشرات النوعية التي تبين مدى الرقي التعليمي واستجابته لمتطلبات عصر التطور العلمي والتقني الذي نعيشه ويتنامى بسرعة بمتوالية هندسية. ومدى استجابة وقبول سوق العمل للمتخرجين بتخصصاتهم المختلفة.

ما من شك أن بلادنا قد تدحرجت إلى الخلف في كل المجالات خلال الثلاثين سنة الماضية (منذ الوحدة في مايو 1990) كنتيجة طبيعية لتخلي النظام الرسمي عن السياسة التعليمية الصائبة واتباع سياسات خاطئة، حرص على تنفيذها النظام الرسمي. فبعد أن كانت دولة الجنوب تحتل أحد المراكز المتقدمة تعليمياً، في المستوى الأساسي والثانوي على مستوى العالم العربي والدول التي تعيش في ظروف مشابهة لظروفنا، أصبحنا في مؤخرة المؤخرة، بل حتى خارج التصنيف العالمي.

لن نبحث هنا كل المبادئ الخاطئة التي اعتمد عليها النظام السياسي في الشأن التعليمي. يكفي أن نذكر أهم أربعة أسباب هي:

1- جهله بقصد أو بدون قصد أن التوسع الأفقي (الذي كان قاصراً بدوره) تعليمياً، ما كان له أن يكون على حساب نوع وجودة التعليم الذي يقدم للنشء.

2- عدم إدراكه بقصد أو بدون قصد أن مخصصات التعليم في بلد يعاني من الانفجار السكاني المستمر كانت جداً متدنية، وأن تعمده التغاضي عن الاستثمار في بناء وتعليم الإنسان، قد صنع بدوره قوى شبه عاجزة معرفياً وعلمياً، وغير قابلة للتسويق في سوق العمل داخلياً نتيجة لضعف المخرجات التعليمية، وكذا للضعف التنموي على مستوى البلاد.

3- إن النظام السياسي قد أهمل مبدأ الاستثمار في الإنسان، مع علمه أن لا سبيل أمامه (نتيجة الانفجار السكاني) سوى تحسين مخرجات التعليم الفني والجامعي لتغذية السوق المحلية، وكذا لتصديرها إلى دول الخارج والجوار لتصبح التحويلات المالية لهذه القوى العاملة رافداً من روافد الدخل القومي، وهو ما قامت بفعله دول كثيرة في شرق آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وحققت بذلك طفرات في اقتصادياتها.

4- جعل المناهج التعليمية تحت إشراف وتصرف القوى المتأسلمة المتطرفة، التي لم تألو جهداً في تسريب فكرها الظلامي إلى عقول الشباب فأنتجت التطرف، وغيبت صفة أعمال العقل، وروح التفكير وحشت المناهج بأمور تحتمل كل شيء إلا استخدام العقل، فأنتجت بذلك فكراً مغيباً ومشوهاً علمياً ودينياً.

نتيجة لما ذكرنا أهمه في أعلاه ولأسباب سياسية أخرى، ازدادت وتفاقمت مشاكل أخرى مجتمعية واقتصادية جرت بدورها ذيول لتلك المشاكل فتفشت الجريمة في المجتمع وظهرت مظاهر لها في أوساط الشباب مثل انتشار المخدرات والإتجار بها وغير ذلك مما نشاهده من تحلل مجتمعي.

ما العمل؟ إزاء كل هذه المشاكل وكيف لنا معالجتها؟

لتصحيح الوضع التعليمي في البلاد هناك جملة من الإجراءات والخطوات التي يجب تنفيذها على المستويين القصير والطويل المدى. اختصاراً سنضعها في نقاط ونترك تفاصيلها للمشتغلين بالتعليم.

على المدى القصير:

1- إعادة النظر في المناهج التعليمية ككل عبر لجان علمية متخصصة مهمتها مراجعة المناهج شكلا ومضمونا وكما ونوعا، واختزال المضامين المكررة من المادة العلمية بما يسمح بالتطابق بين توزيع المادة العلمي والجدول الزمني للإنجاز (القضاء على ما يسمى بالحشو في المناهج).

2- إلغاء المضامين الأيديولوجية الداعية للتطرف والضارة بالفكر لدى النشء، وإعطاء جرع معقولة من المادة الدينية التي تدعو للاعتدال، وتعزز من قيم التسامح المجتمعي، وتقبل الآخر الذي تدعو له العقيدة الإسلامية السمحاء.

3- التركيز على إجادة التلاميذ للقراءة والكتابة بشكل سليم خلال السنوات الثلاث الأولى لدراستهم، وإفراد فترات زمنية أطول في الجدول الدراسي للمواد التي تهيئ لذلك.

4- تصفية المناهج من المواد المبنية على التلقين الخاطئ المسيس الذي يجافي معطيات التاريخ والجغرافيا والحقائق العلمية.

5- الاهتمام بالوضع المعيشي والعلمي للمعلم.



على المدى البعيد (عام إلى عامين)

1- وضع خطة إستراتيجية لهيكلة النظام التعليمي في البلاد انطلاقا من ضرورة المواكبة الديناميكية للتطور التعليمي الذي يحدث في العالم.

2- الإعداد لمؤتمر علمي وتربوي على مستوى البلد، ويدعى إليه المتخصصون والتربويون من ذوي الخبرة، وتقر فيه الإستراتيجية التعليمية والهيكلة الجديدة للسلم التعليمي، واعتماد نظم جديدة لإجراء الامتحانات للمراحل الدراسية تلبي مصلحة الطالب العلمية وأهداف العملية التعليمية بما يتوافق مع التطور التعليمي في العالم.

3- التنسيق بين وزارة التربية والتعليم مع وزارتي التعليم الفني والعالي في إطار المتطلبات للأخيرتين في جانب المناهج الأكاديمية وحجم المعلومات التي يفترض أن يتزود بها الطالب في نهاية مرحلة التعليم الأساسي، ونقصد بالأساس التعليم الثانوي.

وضع هذه الرؤية على عجالة جاء نتيجة طبيعية لمشتغل بالتعليم العالي، وقريباً من كمية الإشكالات التي يعيشها الطالب والمعلم وهي كبيرة حجماً ونوعاً، واستشعاراً بخطورة الوضع التربوي الذي نعيشه (في ظل تطور نوعي يشهده العالم) وتعيشه البلاد بشكل عام. فتح هذا الملف أمام كل المهتمين بالشأن التعليمي وطرحه للنقاش، سيثري -حتماً- الموضوع، وهذا سيؤدي إلى تصحيح الوضع التعليمي المتجمد منذ عقود من الزمن. وآن له أن يتغير إلى الأفضل.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى