الحوثيون يفككون القبائل باستراتيجية تجاوزت سياسة صالح

> واشنطن «الأيام» عادل دشيلة

>
تشترك القبائل الشمالية في اليمن مع حركة الحوثية في ​​تاريخ سياسي طويل وصاخب، حيث يدرك الحوثيون الأهمية السياسية لكسب دعم القبائل الشمالية، حيث بذلت قيادة الحوثيين جهودا كبيرة للسيطرة على القبائل والتلاعب بأطرها التقليدية، بغية فرض سيطرتهم السياسية. ونتيجة لذلك، هناك مجموعات من القبائل الشمالية في اليمن التي تقاتل حاليًا في ضمن صفوف الحوثيين وتحت سيطرتهم. ومع ذلك، فإن ولاء القبائل ليس أمرًا مفروغًا منه ويمكن تحقيقه بسهولة، وقد تأتي أساليب الحوثيين في السيطرة على القبائل في النهاية بنتائج عكسية، مما يترك الحوثيين بلا أصدقاء في بيئة معادية. وعلى أي حال، فإن هذا التمزق المتعمد من قبل الحوثيين الذي يشهده النسيج الاجتماعي القبلي في شمال اليمن سيكون بالتأكيد له عواقب وخيمة وعنيفة، ومن ثم، يجب أن يكون أصحاب المصلحة في اليمن على دراية بهذه الديناميكيات الاجتماعية المتغيرة.

من الضروري فهم الاختلافات بين جماعة الحوثي والجماعات القبلية الشمالية، فالحركة الحوثية هي جماعة دينية مسلحة ذات بعد أيديولوجي قائم على اختزال الحكم في فئة معينة تُدعى بني هاشم (وهي جماعة تطلق على نفسها آل البيت وتدّعي الانتماء إلى النبي محمد صلعم)، حيث يعتقد الكثيرون في شمال اليمن أن الحوثيين يسعون لإحياء حكم الإمامة الذي أسقطه اليمنيون غداة 26 سبتمبر 1962.وعلى الرغم من أن الحوثيين ينكرون ذلك، إلا أن سياستهم توحي بعكس ذلك. كما وتفكر الحركة الحوثية بعقلية دينية مذهبية وتميل إلى العنف المفرط لتحقيق أهدافها.  وعلى النقيض، فإن القبيلة اليمنية الزراعية التي يجمع بينها الروابط الاجتماعية القائمة على وشائج القربى والدم والمصالح المشتركة، لا تميل للعنف إلا في حالة الدفاع عن نفسها.

وحاليًا، ونتيجة التاريخ الطويل للتلاعب السياسي، تسيطر حركة الحوثي على قيادات العديد من القبائل، مثل قبائل سفيان، حاشد، بكيل، لهنوم، خولان، ريمة، والقبائل الأخرى الواقعة تحت سيطرة الحركة، حيث شكل الحوثيون قيادات جديدة للكثير من هذه القبائل وفرضوها على القبيلة.  ومن ثم أصبحوا هم المتحكم بالمشهد القبلي لأنهم أدركوا أهمية القبيلة وضرورة تطويعها لبسط نفوذهم السياسي في اليمن، حيث كانت القبيلة بمثابة عنصر حاسم في فشل ثورة اليمن عام 1948 ونجاح ثورتي 1962 و2011.

وبعد أن أدرك الحوثيون أهمية كسب الدعم القبلي، شرعوا في خلخلة المنظومة القبلية التقليدية بشقيها السياسي الذي كان منخرطًا في الدولة، والتقليدي الذي كان مسيطرًا على الوضع القبلي من خلال تعيين مشرفين من أبناء الطبقة الهاشمية في مؤسسات الدولة وكذلك على المناطق القبلية، فأصبح المشرف الحوثي الهاشمي هو المسؤول الأول وسلطته أقوى من سلطة القبيلة والمؤسسات الحكومية. كما يعد الدعم القبلي المبدئي لحركة الحوثي نتاجًا جزئيًا لتحالفهم مع الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح، الذي سمحت له شبكات المحسوبية الخاصة به في الحصول على بعض النفوذ في شمال اليمن.

 أمّا طبيعة العلاقة بين الرئيس السابق صالح والحوثيين فقد كانت مرحلية وليست إستراتيجية، حيث كان يريد صالح استخدام الحركة الحوثية لتصفية حساباته السياسية مع القوى السياسية المعارضة لنظامه بشقيها الحزبي والقبلي، ولذلك أوعز صالح للقبائل الموالية له بأن يساعدوا الحركة الحوثية وألا يقفوا في وجهها خاصة خلال اقتحامها لمحافظتي عمران وصنعاء، وفعلا ساعدت بعض هذه القبائل الموالية لصالح الحركة الحوثية حتى تم إسقاط العاصمة صنعاء.

إضافة إلى ذلك، عمل الحوثيون على إضعاف الدور السياسي للقبائل، ولتنفيذ هذه السياسة لجأوا لعدة أساليب. على سبيل المثال، قام الحوثيون في عام 2014 بتعيين ضيف الله رسام المنتمي لمنطقة حيدان- المعقل الثقافي والعسكري للحركة الحوثية- كرئيس «لمجلس التلاحم القبلي» التابع لحركة الحوثي، وهذا التنصيب جاء خارج اللوائح والنظم القبلية المعروفة، فقد تم تنصيبه بالقوة وبدون موافقة القبيلة. عادة يتم تنصيب شيخ القبيلة بالإجماع من خلال اجتماع القبيلة ومن ثم تنصيب الشيخ كما كان يحصل في حاشد وبكيل وباقي القبائل اليمنية وهذا معروف لدى القبائل، لكن الحوثيين ضربوا بتلك اللوائح عرض الحائط.

بعد سقوط  العاصمة صنعاء في 21 سبتمبر 2014 على يد الحوثيين، قام الحوثيون بمنح امتيازات اقتصادية للمشايخ الجدد الذين نصّبوهم على القبائل في المديريات والقرى بما في ذلك ترك هؤلاء الشيوخ يمارسون القمع ضد كل من يعارض فكر الحوثي، حيث يقومون بسجنهم أو أخذ رهائن أو ربما تصفيتهم جسديًا إذا رفضوا توجيهات قادة الحركة كما حصل مع الشيخ السكني، وقشيرة، وسلطان الوروري، الذين ينتمون لمحافظة عمران. هذه التصرفات دخيلة على القبائل ولا تمت إلى أعرافهم بصلة.

استخدم الحوثيين أيضًا سياسة ضرب القبائل ببعضها البعض وعدم البت في حل القضايا القبلية حتى يكونوا مربوطين بالحركة الحوثية لأن حل الخلافات القبلية لا يصب في صالح الحركة، ولتنفيذ هذه الإستراتيجية أوكل الحوثيون القضايا القبلية لشخصيات قبلية محسوبة على الحركة الحوثية ولا يوجد لدى هذه الشخصيات صفات القيادة القبلية الكاريزمية التي تتصف بالذكاء والحنكة السياسية والفهم الممتاز للأعراف القبيلة التي يمكن أن تحل مثل هذه المشاكل القبلية عبر الحوار، والتحكيم القبلي. وهكذا لم تستطع القبائل أن تتكاتف لتشكل جبهة موحدة لمواجهة الحوثيين نظرا لتفككها.

استخدم الحوثيون أيضًا القوة المفرطة لإرهاب القبائل الشهيرة كقبائل حاشد وبكيل وخولان وهمدان وأرحب وتفردوا بقتالها الواحدة تلو الأخرى، وهذا سهل لهم هزيمة القبائل، وتم إهانة بعض رموز القبائل وتفجير منازلهم، كما قاموا بتفجير المقرات السياسية التابعة لبعض الأحزاب كحزب الإصلاح، ودور العبادة، وشيوخ قبليين في مناطق أخرى. كل هذه الأعمال أرهبت القبائل وجعلتها لا تتحرك ضد الحوثيين. غالبًا ما كان الحوثيون قادرين على استمالة القبائل وتحسين علاقتهم معها من خلال اتفاقيات عدم اعتداء فرضت السلام بين الطرفين دون الدخول في تحالف رسمي.

وهكذا، دمر الحوثيون الأعراف القبلية وضربوا بها عرض الحائط وحولوا القبائل إلى مجاميع عنف مسلحة واستخدموا كل الوسائل لعسكرتها. ولذلك، بعد أن سيطر الحوثيون على كل المؤسسات الحكومية والتعليمية والدينية لصالحهم، وحاولوا ترسيخ سلطتهم الدينية في عقول القبائل وإقناعهم بأنّ السلطة الحوثية الثيوقراطية هي الطريقة الوحيدة للاستقرار والتنمية والتعايش، وذلك على حد قول حسين الحوثي.

ولضمان ولاء الجيل القادم، قام الحوثيون بتحويل المجالس القبلية إلى ما يشبه مراكز دينية لنشر فكرهم، فلا تجد في هذه الأماكن سِوى صوت الزوامل والشعارات الحوثية ومحاضرات عبد الملك الحوثي، وتدريس ملازم مؤسس الحركة- حسين الحوثي بشكل إجباري على الطلاب، والمدرسين، وشيوخ القبائل وحتى أساتذة الجامعات وبعض الفئات الأخرى حيث يتم ترتيب دورات ثقافية لتعليم هؤلاء، وكل من يعارض هذه الأعمال يقومون بتأديبه فورًا. هذه الممارسات تمثل تهديدًا خطيرًا على مستقبل القبيلة حيث يسعى الحوثيون إلى جرف الهُوية الثقافية التقليدية القبلية القائمة على التعايش واحترام المواثيق والعهود وعدم الغدر.

ولشرعنة أعمال الحركة الحوثية ضد القبيلة، استخدم الحوثيون «وثيقة الشرف القبلي» التي تم إشهارها في 2015 وتنص على استباحة ومصادرة ممتلكات كل من يعارض الحركة، وقد تم تنفيذها بالقوة العسكرية وصرح رئيس ما يُسمى بمجلس التلاحم القبلي التابع للحركة بأن من لم يقاتل مع الحوثيين فسيتم إجباره على ذلك بالقوة ومن يرفض فسيتم استخدامهم كدروع بشرية تحت مُسمى الغرم القبلي (والغرم القبلي يعني أن كل شيخ قبيلة أو فرد من أفراد القبيلة يجب أن يقدم الدعم المالي وكذلك أحد أفراد أسرته للقتال مع الحركة). هذه الوثيقة دليل على انتهاك الحوثيين للعادات والتقاليد القبلية المعروفة لأن القبيلة لا ترغم أحد للقتال. لذلك، هذه الوثيقة هي أداة لتطويع القبيلة بالقوة.

حاليًا، تنقسم القبائل التي تقع تحت سيطرة الحوثيين إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول، البرجماتي ويشكل فئة كبيرة من القبائل، ويمكن أن ينقلبوا على الحركة الحوثية في أي لحظة، وينتظرون الفرصة المناسبة للتمرد عليها لأنهم لا يريدون المجازفة بأفراد قبيلتهم في معارك خاسرة مع الحوثيين حاليًا. لكن، هذا القسم يقاتل مع الحوثيين من منطلق قومي قبلي حيث يستغل الحوثيون نخوة القبائل وعزتهم في مواجهة ما يسمونه بالعدوان ويستغلون كراهية القبائل للأنظمة الخليجية- نتيجة لمواقفها السياسية السابقة تجاه اليمن واليمنيين، ونتيجة لضربات طيران التحالف التي تستهدف المدنيين.

 والقسم الثاني، هو القسم العقائدي الذي يدين بالولاء المطلق للفكر الحوثي وهذا القسم قتل أغلبهم خلال الحرب الماضية 2004 - 2010 والحالية.
 والقسم الثالث يضطرون لإرسال أبنائهم وأقاربهم للقتال في صفوف الحوثيين من أجل الحصول على بعض المكاسب مثل السلاح والمال والقوت الضروري، وهؤلاء ليسوا مخيرين في كل الأحوال بل دفعت بهم الحاجة للقتال مع الحركة الحوثية، وصاروا مجبرين على ذلك تحت تهديدات الحوثيين بالخطف ومصادرة الممتلكات ضد من يرفض أوامر الحركة.

في نهاية المطاف ستجد الحركة الحوثية الهاشمية نفسها وحيدة مثلما وجد قادة الإمامة أنفسهم وحيدين بعد خوضهم الحرب مع النظام الجمهوري المدعوم قبليا لمدة ثمان سنوات بين عامي 1962-1970، لأنه لا يوجد حلفاء حقيقيون للحركة الحوثية سِوى اتكائها على آلة البطش والتنكيل وإهانة القبائل. وفى الوقت عينه، لا يبدو أن يكون هناك دعم سياسي وعسكري محتمل للقبائل من قبل الدولة في المستقبل القريب.

وعلى هذا النحو، سيعتمد أي تغيير على إمكانية الصحوة القبلية التي قد تشعلها العنصرية التي تُمارسها الحركة الحوثية ضد القبيلة، حيث تنظر الحركة إليهم كعبيد سخرهم الله لآل البيت، بل تحاول تضخيم مفردات «السيد العلم» بين القبائل في إشارة لزعيم الحركة الحوثية، وهذه المفردات تجعل القبيلة تشعر بالعنصرية من قِبل قادة الحركة الهاشميين، بل إن الحركة تمارس العنصرية حتى في القبور حيث تقوم بتمييز قبور قادتها الهاشميين عن القبائل الذين يقتلون مع الحركة الحوثية في معاركها الدائرة. هذه النظرة الدونية للقبائل كفيلة بعدم استمرار الحوثيين بالتفرد بالحكم في هذه المناطق القبلية على المدى البعيد.

إن استمرار الحركة الحوثية في حكم شمال اليمن سيؤدي إلى انقسام القبائل بين أطراف النزاع، وستنقسم إلى كانتونات متناحرة، وسيتعرض النسيج الاجتماعي والسلم الأهلي لخطر غير مسبوق، ليس على الشعب اليمني فحسب، ولكن على دول الإقليم قاطبة، وسيمتد هذا الخطر للسلم والأمن الدوليين مما يتوجب إنهاء هذا الوضع القائم عبر تطبيق قرارات مجلس الأمن المتعلقة بالصراع في اليمن. أيضًا، يجب أن يأخذ المحللون وأصحاب المصلحة التحولات التي طرأت على القبيلة مؤخرًا في الحسبان، على الأقل بعد تداعيات الربيع العربي وسقوط صنعاء. ومن ثم، يتطلب حل قضايا اليمن إجراء دراسات متعمقة جديدة حول طريقة تفكير القبائل ومقارباتها وثقافتها التي تعمل على التكيف والاستجابة لهذه التحولات الأخيرة.

*عادل دشيلة هو كاتب وباحث أكاديمي يمني، حاصل على درجة الدكتوراه في الأدب الإنجليزي.
**عن معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى