مقهى "النحت" في مدينة القطن بوادي حضرموت

> تقرير/ خالد بلحاج :

> عبق التاريخ في نكهة الشاي الحضرمي
وأنت تسير وسط شوارع وأزقة مدن حضرموت ستشاهد تجمعات لكبار السن ومن مختلف الأعمار ترتشف أكواب الشاي في الصباح وساعات الأصيل، هنا لم تصل نبتة القات إلا في سنوات متأخرة من العبث فالمجتمع الحضرمي قاوم بشدة هذه النبتة التي اجتاحت كل مدن البلاد شمالا وجنوبا وبقي محافظا على هدوئه وسكينته.
في مقاهي حضرموت ستسمع صوت عمال المقاهي يهتفون بصوت عالٍ: واحد شاهي لأبو فلان، تتكرر الأصوات على مدار الوقت.

وفي مدينة القطن بوادي حضرموت ستقودك رائحة الشاي وعبقه الفريد إلى مقهى يديره رجل في العقد السادس من العمر أمضى قرابة نصف قرن في المقهى يوزع ابتساماته لرواد المقهى ولزواره الجدد.. ويطرق بيديه أكواب الشاي الفارغة فتصدر منها نغمة باتت مألوفة وهو ينادي: (شاي... شاي...شاي).
وعند جلوسك وسط زحام الزبائن والزائرين للمقهى لتناول الشاي ستشاهد نسخة مصغرة للمجتمع الحضرمي وهم يتناقشون فيما بينهم هموم البلاد والعباد، والبعض يمارسون هواياتهم المفضلة في لعب (الدومينو) ليخيل إليك أنك في ناد للألعاب أو في مسابقة.

مقهى النحت
منذ لحظات الصباح الأولى يتنفس الصبح في مدينة القطن وتكمل العصافير والطيور تسابيحها بعد خروج المصلين من المساجد عقب صلاة الفجر.. تنطفئ أنوار مصابيح الشوارع وتحمل خيوط الشمس أحلاما جديدة.
يأتي أبو صالح "النحت" إلى حارة الريضة وسط مدينة القطن ليبدأ يومه الجديد بروح مفعمة بالأمل والحيوية.

في صباحات المدينة التقت "الأيام" العم "أبو صالح" سالم باعطوة الملقب بـ "النحت" الذي تحدث عن ذكرياته مع صناعة الشاي الحضرمي: "أبدأ عملي بفتح باب المقهى ورش الماء أمام الباب وأردد (بسم الله... يا فتاح، يا رزاق، أصبحنا وأصبح الملك لله)، ثم أبدأ بتجهيز الشاي المليء بالهيل في أباريق مصنوعة من المعدن مستخدما الماء الساخن وأضع تلك الأباريق على مكعبات الفحم الأحمر والرمادي، وأيضا من خلال الاستعانة بشولة الغاز".

يتابع العم النحت حديثه وعمله ويشير إلى طريقة عمله في إنتاج الشاي: "ما أن يجهز الشاي حتى تكون رائحة الهيل قد ملأت المكان برائحته الأخاذة".
للهيل مكانة وسحر وتأريخ في رحلات الحضارم وعند العم النحت نسمة عاطرة في صباحات المدينة وعند سويعات الأصيل تداعب رواد المكان وزائريه المارين من إمام المقهى المقابل للسوق القديم.

يمسح أبو صالح يديه، وهو يرتدي ملابسه الاعتيادية الحضرمية الأصيلة (الشميز والفوطة) ويضع على رأسه طاقيته المعتادة ويخرج من جيبه علبة السيجارة اللف التي لا تفارقه ويشعل حبة ليبدأ الحديث عن ذكرياته: "بدأت العمل مع والدي رحمة الله عليه وهو رجل كبير في السن قبل حوالي خمسين عاما". ويضيف: "كان المقهى ملتقى عاما لكل أبناء المدينة والقرى المجاورة لها، يقصده الرياضيون والفنانون والكتاب والأدباء والتجار والشخصيات الاجتماعية وغيرهم، وكانوا يتناقشون في كافة قضايا البلد وينشغل هواة اللعب باللعب خصوصاً الضمنة "الدومينو" والورقة، بينما العقال (كبار السن) يتخذون من ركن المقهى موقعاً لهم لتدخين "الرشبة"، وينشغل آخرون بتناقل الأخبار عن الرواة حيث كانت تلك الفترة لا توجد وسائل تواصل أو وسائل إعلام. مضيفا: "عندما يأتي شخص من قرية أو مدينة أخرى يستقبله الناس بالترحاب والسؤال عن الحال: أرحبت يا فلان.. أيش الأخبار؟ شيء خبر ولا علم؟ وإذا كان هناك موسم أمطار يسألونه شيء أمطار حولكم؟ وهكذا...".

يقول العم النحت "إن من بين زوار ورواد المقهى في زمن الفن الجميل الفنان بدوي زبير وعازف الإيقاع والدف والعود الفنان عوض باسيف رحمهما الله، حيث كانوا يتجمعون في المقهى عند والده رحمة الله عليه يوميا ويؤدون بروفات الأغاني هنا".
ويسترسل في حديثه قائلا: "كان الفنان بدوي زبير يأتي من مدينة شبام على الدراجة النارية ويجلس إلى آخر الليل ثم يعود إلى شبام".

يستحضر الرجل الستيني ذكرياته متحسرا على سنوات جميلة: "آه آه على تلك الفترة من الزمن الجميل".

ويختم قوله: "لايزال المقهى يقدم خدماته لزواره ولايزال محتفظا بزبائنه، ولكن الزمان غير الزمان والناس غير الناس، رحل زمن الطيبين والزمن الجميل، اليوم الزمن له رجاله وابتعد البعض منهم والبعض توفاهم الله، ولكن المقهى ظل على حاله ثابت تنبعث منه رائحة الشاهي المعروفة لدى قاصديه بشاهي النحت". ويواصل: "اليوم بلغت من السن "65" عاما، والبركة في الأجيال القادمة ليواصلوا مسيرة هذا المقهى".

انطباعات
أما متذوقو الشاي فلهم آراؤهم وانطباعاتهم في هذا المقهى، فالغريب الذي استوقفني أن رجلا كان يرتدي العقال والشماغ جلب له أبو صالح الشاي ووضعه على منضدة صغيرة بنية اللون، بدأت ترتجف أثناء تحريك الملعقة وسط الكوب فامتزج صوتها مع صوت الطقطقة والمسبحة الكهرب التي بيده تشكل الأصوات سيمفونية من طراز خاص، ويستمر الرجل بتحريك الملعقة دون أن يشعر بأن الشاي صار باردا، لأنه رحل مع ذكرياته وأيامه الجميلة، سابحا في الخيال، وما أن عاد من رحلته حتى تكلم معي قائلا "أنا زائر من منطقة منوب القريبة من القطن، هاجرت إلى أرض الاغتراب 40 عاما ثم عدت فكان حنين الذكريات لهذا المقهى هاجساً لي".

ويضيف: "ما أن وطئت قدماي بلدتي هزني الشوق والحنين للمقهى الذي كنت يوما أحد مرتاديه بصحبة والدي، لقد كانت أياما جميلة".
هواة اللعب ومدخني الرشبة يجدون في المقهى متنفسا وحيدا، وإن لم يتذوقوا كوباً من الشاهي يصابوا بالصداع حسب قولهم، ويضيفوا عبارة: "يا بوي على شاهي النحت!"، للتعبير عن فرادة مذاق شاي العم "النحت".
مقهى النحت ليس الوحيد هنا ومدينة القطن أيضا ليست الاستثناء في حكايتها مع الشاي الحضرمي فحضرموت عامة تزخر بالعديد من المقاهي التاريخية التي ذاع صيتها ومازال مرتادوها حتى اليوم يمارسون هواياتهم وألعابهم بداخلها لتبقى مقاهي حضرموت نكهة الشاي المميز بعبق التاريخ.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى