قصة قصيرة.. ليتك لم تأتِ

> زهرة رحمة الله

> كنت أقف على الشاطئ، أنظر إلى الأولاد وهم يلعبون، وأترك قدمي تداعبها الأمواج بلمسات ناعمة حانية.

حين مر بجانبي، كان ينظر إليّ، وهو يتحدث بالهاتف، ثم وقف وعاد، فوجدته بجانبي، مشيراً إليَّ بسبابته، يحدثني:

أنتِ، وصمت كأنه يبحث في أرشيف ماضيه.

أنتِ ليال؟

العفو أجبت باستفهام، وأنا أمعن النظر في وجهه. كانت ملامحه حادة، قاسية، مرت عليها عجلات الزمن وهو في سجال عنيف معها. انفرجت شفتاه بابتسامة أضاءت وجهه.

أنا عاصم.. أنتِ تزورين الشاطئ صباح كل جمعة.. وأشار نحو الأولاد. أومأت برأسي، ونظر إلى حيث المفرش ومتاع الرحلة، وسيارة صغيرة اشتريتها بعد وفاة زوجي، لتغنيني عن السؤال وطلب المساعدة. فقال: أهي لك؟

أومأت برأسي إيجاباً، وتركني وهو يواصل حديثه بالهاتف.

ناديت الأولاد، وعدنا إلى المنزل، وبدا الأولاد يستعدون للذهاب إلى المسجد لصلاة الجمعة.

مر الأسبوع بشكل عادي، بين الوظيفة ومتابعة واجبات الأولاد المدرسية.

وفي صباح الجمعة، وجدته على الشاطئ، وأقبل نحوي. فقال: أين أبو الأولاد؟

كان السؤال غير متوقع، وجدت نفسي أغرق في الصمت، رحت أنظر إلى الأرض.

فقال: آسف، هل توفي؟

فقلت: نعم، اغتالوه. كان رجلاً مسالماً، يحب القراءة والصمت، ويقضي وقته في المسجد يعلم الأطفال القرآن. لكن، عبدة الشيطان، الذين يطبقون مبدأ "الشيطان أنا خير منه"، قتلوه، إنهم يمنعون حق الحياة للآخر، أي الفريق الذي يمتنع عن قبول الآخر، فهو من عباد الشيطان.

إنها تركة ثقيلة من الجهل، تعشّش في الرؤوس. ويرن الهاتف.. يتحدث في الهاتف ويبتعد.

رأيته مبتعداً، وتأتي سيارة "جيب" فتأخذه.

لقد تذكرته. كنت أدرس في المعهد، وكان هو يتبعني بدراجته النارية، كل يوم عند عودتي، ويملأ أيامي بضجيج حلو وأحلام.

وفجأة اختفى، وتاقت أيامي لرؤيته، سألت عنه الشوارع والطرقات، والشبابيك والأبواب. كانت الشوارع مقفرة والوجوه مغلقة، ولم أجد له شبيها.

ومرت الأيام، وعرفت أنه ضمن دفعة التجنيد الإجباري ككل الشباب. وكان ذلك الخبر اليقين.

وفي نهار الجمعة، حملنا متاعنا وذهبنا إلى الشاطئ. كان هناك، ووقف أمام الأولاد، وقال: ما رأيكم شباب، نركض على الشاطئ وأسبقكم؟

نظر إلي الأولاد، فأومأت لهم برأسي موافقة، صرخوا بصوت واحد:

يا الله، نركض ونحن نسبقك، وراحوا يركضون، وعمر الصغير، ذي الأربعة أعوام، يركض خلفهم.. يدخل عاصم البحر، ويدخلون خلفه، وأنا أقف على الشاطئ، أحمل لهم المناشف، وعمر الصغير يقف بجانبي، أعطيه منشفة يحملها لعاصم، يحمله عاصم ويرفعه في الهواء، ثم يطبع على خده قبلة، ويتركه على الأرض، يأتي إلي عمر، يركض على جناح الفرحة، لقد ضخ في جسده سروراً لم يألفه. بعض القلوب تتسع، فتحمل العالم كله، وبعضها تضيق كخرم إبرة.

وتقبل سيارة، تأخذه، ويرحل. من أين يأتي، وإلى أين يرحل، وما هي تلك الأحاديث التي تنهال عليه؟

أسئلة كثيرة، تزرع شوكاً في ليلي، لكنني لم أسأله، وتركت للأيام أن تفك شفرتها.

في الأسبوع التالي، كنت منهمكة في إعداد السندويتشات، حين جلس على المفرش، ووضع يده على يدي، رفعت نظرة استنكار.. همس في أذني:

أتتزوجيني؟ فابتسمت بارتباك. وأقبل الأولاد نحوه.. وقالوا:

عمو، تعال، ألعب كرة معنا، وركض الأولاد، فسار خلفهم وهو يتحدث بالهاتف، ورأيت حزمة مفاتيحه، متكومة على المفرش، ركضت خلفه أسابق خطواته.. وسمعته يقول:

شددوا الحصار، أثبتوا سنصل قريباً، ناديته، ووضعت حزمة المفاتيح في كفه، نظر إلي بارتباك، ووسّع خطاه، وجاءت السيارة لتقله. تسمرتُ في مكاني، وأنا أحدّق في الفراغ، لأول مرة، ينتابني الإحساس بالخطر، ولم أستطع السيطرة على وجيب قلبي.

من يوم أن اقتحم حياتنا، وأنا أرحل على مطايا الأيام، يلفُّني صمت كثيف. واليوم بطلبه الارتباط، يقوض ذلك الصمت، ويملأ ليلي بنجوم وفرح.. ذلك الفرح، تسرب إليه القلق، ويسرق راحة بالي.. نفسي تحدثني بأنه في خطر.

في يوم، كان يجلس على المفرش بصمت، سمعت صراخ عمر من بعيد: أمي!

نظرت، فرأيت رجلاً يحمله، ويلقي به في سيارته، وتنطلق السيارة إلى الأمام. صرخت بجنون، وانطلقت أركض، فقبض عاصم على يدي، صارخاً فيّ:

تريثي، أنا سأحضره. كنت أصرخ بدون وعي: ابني.. ابني.

فقال: اهدئي هذه عصابة.. هذه مهمتي، وانطلق يركض، وجاءت السيارة، حملته، وبلعهما المنعطف.

وبعد أكثر من ساعة، رأيته يأتيني، يركض وهو يحمل بين ذراعيه "عمر"، هرعت أركض نحوهما، فجأة، سمعت صوت طلق ناري، يقوض صمت الصباح.. تسمرت في مكاني، وأنا أشهق بعنف، تراخت ذراعا عاصم، وانفلت عمر من حصار يديه، وأقبل يركض نحوي وعاصم يسقط أرضاً، مضرجاً بدمائه.. كانت سيارة بقرب المنعطف تطلق النار، ثم اختفت.. كان هناك دوي طلقات رصاص وانفجار، وألسنة نار، وأعمدة دخان.. كأنما كتم البحر أنفاسه، وحبست الأمواج حركتها، والكون كله يسيخ السمع لصراخي وأنا أبكيه.

جاءت سيارته، نزل منها جنديان، حملاه برفق، وراحت السيارة بعيداً، وتختفي بالمنعطف.

جاء الأولاد، ووضعوا رؤوسهم على صدري وحجري:

ماما، عمو، ماما، عمو.

لقد ذهب.. ولن يعود. قلتها وأنا أمسح دموعي.

لقد أرهقتَ أعداءك وأعداء الوطن. كان لا بد أن يزيحك إخوان الشياطين. لقد تصالحتُ مع الحياة، بعد ألم مرير، وكنا نجذف في زورق الانسجام مع الأيام، واليوم النفس بعدك مليون شظية لملمتها محال.. ليتك لم تأتِ.. ليتنا لم نلتقِ.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى