توازن أم تنافس إقليمي؟..تركيا ومساعي الانخراط في الخليج العربي

> د. محمد مجاهد الزيات

> توظف تركيا المتغيرات الاستراتيجية التي تشهدها الساحة الخليجية في المرحلة الراهنة، لعل أبرزها الانخراط الإسرائيلي، والمصالحة العربية مع قطر، لصالح زيادة مستوى حضورها على تلك الساحة والانخراط فيها كفاعل إقليمي مؤثر في مقابل تزايد حضور فاعلين إقليميين آخرين لعل أبرزهم إسرائيل في إطار إبرام اتفاقيات تطبيع مع كل من الإمارات والبحرين، ورفع مستوى العلاقات مع سلطنة عمان وقطر، بالإضافة لتواتر الحديث عن تزايد اتصالات مع الكويت. وهو ما انعكس بالتبعية على هيكل التوازن القوى الإقليمي، حيث أصبحت إسرائيل طرفا في معادلة المتغيرات ومسارات السياسة في الخليج والشرق الأوسط.

ويمكن القول إن المشهد الاستراتيجي في الخليج أصبح على النحو التالي كاشفا عن وجود هامش واسع يمكنه استيعاب تلك القوى، فقد أصبح بمقدور إسرائيل التنقل من العلاقات السياسية إلى التنسيق الأمني والتعاون الاقتصادي، فأقر بذلك مساحة حركة أوسع لإسرائيل في دائرة مهمة لها تأثيرها في الشرق الأوسط بما يوفر لها دورا إقليميا أوسع في إطار التنافس بين القوى الإقليمية على اتساع المنطقة، وتسعى إسرائيل لاستثماره للاندماج في اقتصاديات المنطقة. وأن تصبح طرفا ــ مشروعا ــ في مسارات الحركة وتوازنات القوى داخلها. وكان القائمون على إفساح المجال للانخراط الإسرائيلي في الخليج قد أشاروا إلى ضغوط من الولايات المتحدة الأمريكية ليكون هذا بداية تحالف في مواجهة السياسة التركية الإيرانية.

وفي المقابل يمكن تصور أن هناك مؤشرا على إمكانية استيعاب الحضور التركي على التوازي، في إطار عملية المصالحة «الشكلية» التي تمت بين التحالف الرباعي (السعودية، الإمارات، البحرين، مصر) بعد ثلاث سنوات من القطعية بوساطة أمريكية، فعلى الرغم من أن الدول الأربع كانت تضع ثلاثة عشر شرطا لإنهاء المقاطعة أحدها يتعلق بمحاصرة التواجد العسكري التركي في قطر، إلا أنه على ما يبدو في إطار قمة «العلا" (يناير 2021) تم تجاوز هذا الأمر، ربما من منظور أن هذا التواجد لا يشكل مستوى عاليا من التهديد أو الخطر ويمكن استيعابه، خاصة وأن كل من عمان وقطر والكويت لم يعترضوا عليه منذ البداية. كما توالت تصريحات لكبار المسئولين في عدد من الدول الخليجية لأهمية وضرورة العلاقات مع تركيا، وأنه لا توجد مبررات للعداء معها.

سارعت تركيا إلى تقديم إشارات إيجابية من خلال أحاديث كبار مسئوليها بمن فيهم الرئيس التركي أردوجان، هذه الإشارات تضمنت تقديرا غير مسبوق في أحاديث الرئيس رجـب طيب أردوجان ومستشاره ياسين أقطاي ووزير خارجيته تشاويش أوجلو بخصوص بعض القيادات الخليجية، والاستعداد لإقامة علاقة متطورة مع مصر، وتشير متابعة وسائل الإعلام التركية القريبة من الحكومة إلى نوع من التطور الذي يركز على ضرورة تحقيق نوع من الانفتاح السياسي مع دول الخليج خاصة السعودية والإمارات والبحرين خلال الفترة القادمة. وتوجت تركيا هذا التحرك بجولة «أقطاي» ووزير الخارجية لكل من الكويت وقطر وسلطنة عمان. وفيما يتعلق بهذا الخصوص نشير إلى عدة ملاحظات، أهمها:

إن الكويت كانت الدولة الخليجية الثانية بعد قطر التي حرصت ولا تزال على المحافظة على علاقات جيدة مع تركيا وتزامن ذلك مع تردي العلاقات التركية مع كل من الإمارات والسعودية وشملت هذه العلاقات تعاونا دفاعيا وتمويل شركات تصنيع تركية وعلاقات سياسية متطورة وتناميا ملحوظا للعلاقات التجارية والاستثمارات الكويتية في تركيا.

إن سلطنة عمان لم تتخذ أي موقف من تركيا أو تبنيها للتنظيم الدولي للإخوان أو تهديدها لأمن عدد من دول المنطقة وفضلت الحياد طوال السنوات الماضية، وتبادل كبار المسئولين الزيارات بما يعني أن علاقاتها مفتوحة على نحو أكثر إيجابية مع تركيا.

خرجت قطر من مبادرة المصالحة الخليجية أكثر تأكيدا على علاقاتها مع تركيا والتوجه إلى تطوير هذه العلاقات دون قلق من مواقف خليجية مجاورة، وكشف عن ذلك الدعم المالي النقدي والتعاون الاقتصادي والعسكري خلال الأسابيع الأخيرة بين الدوحة وأنقرة والانصهار القطري في الاستراتيجية التركية على اتساع الإقليم.

وأصبحت تركيا تتحدث حاليًا ليس فقط عن علاقة متطورة مع دول الخليج ولكن عن شراكة استراتيجية متعددة المستويات يمكن أن ترقى إلى نوع من التحالف يوازن الحضور الإسرائيلي. ويطرح تركيا طرفا في معادلة التوازن الاستراتيجي في الخليج. وتستفيد من ذلك في إطار تعاملها سواء مع إيران أو إسرائيل أو الولايات المتحدة.

لا شك أن التركيز التركي على كل من قطر وسلطنة عمان والكويت في المرحلة الحالية إنما تمثل خطوة ضرورية لاختراق مجلس التعاون الخليجي انتظارا لتحسين العلاقات مع باقي دول المجلس، وهو أمر بدأت المصادر التركية تتحدث عنه وتشير إلى اتصالات سرية بخصوصه. وبحيث يتوافر لها القدرة على التأثير على أي قرار جماعي في المجلس مستقبلا.

إن التحرك التركي الأخير، يأتي متزامنا مع الحراك الذي بدأ مع مجيء الإدارة الأمريكية الجديدة والتي أعطت رسائل متناقضة مع عدد من دول الخليج، ولوحت بنوع من العقوبات، وطرحت سياسة مغايرة للتعامل مع إيران، وهو ما وجدته تركيا مناخًا مناسبًا لأرضية تعاون مع دول المنطقة على هامش ذلك الحراك.

تشير الملاحظات السابقة إلى أن تركيا قد بدأت تحركا أكثر إيجابية في منطقة الخليج استثمارا لمناخ الانفتاح الذي أعقب المصالحة لتقدم نفسها أولا للدول التي لديها خطوط اتصال إيجابية معها. ثم تنتقل في مرحلة تالية لباقي الدول تعميقا للوجود التركي على مستويات متعددة ولتقديم نفسها كقوة إقليمية موازنة للقوى الإقليمية الأخرى في دائرة الخليج وما حولها (إسرائيل وإيران)، وفي محاولة لموازنة تزايد الحضور الإسرائيلي وعدم انفرادها بالساحة، وتضييق المساحة المتاحة أمام القوى الإقليمية المنافسة.

ولا شك أن التحرك التركي في الخليج سوف يترك تداعيات إيجابية على الاستراتيجية التركية في مناطق الجوار الخليجي سواء في القرن الأفريقي أو ليبيا أو العراق وسوريا. لتثبيت دوائر نفوذ تخدم بعضها وتحقق طموحات أروجان في أن تصبح تركيا دولة إقليمية عظمى.

وفي التقدير أن مجمل الحركة التركية في الخليج، في ظل تطورات الحضور الإسرائيلي هناك، وما يثار حول سياسة أمريكية جديدة للتعامل مع إيران بعيدا عن المواجهة التي انتهجتها الإدارة السابقة، بفرض ضرورة الاهتمام المصري بتداعياتها وهل يؤثر ذلك على صيغة التحالف الرباعي ويضيق مساحة الحركة المتاحة أمام الحضور المصري في الخليج، ويحتم أهمية تكثيف العمل لصياغة شراكة استراتيجية أكثر تحديدا وتفاهمات تستوعب مخاطر وتهديدات الأمن المشترك لتلك الدول ويتم ترجمتها في سياسات واضحة من خلال حوار استراتيجي متعدد المستويات بين الدوائر المعنية بهذا الخصوص، حيث تحتم متطلبات الأمن القومي المصري والعربي، عدم ترك الساحة أمام القوى الإقليمية المنافسة خاصة إسرائيل وتركيا وإيران، والعمل على بلورة مشروع عربي موازن يمكن أن يبدأ بدول التحالف الرباعي مع التنسيق مع كل من الأردن وتطوير العلاقات مع العراق.

"المركز المصري للدراسات"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى