مقابر الحكومة وإبليسها!
>
سكب الحارس تنكة من الماء على رأسه فأفاق وأعاد السؤال، ثم أشار بيده إلى ألّا يتكلموا وقال اذهبوا فأنتم الطلقاء، وجلس يبكي وهو يتمتم حقاً أنني مجنون، هل يعقل أن تلقي الشرطة القبض على أموات وتقودهم إلى الحبس؟ إذاً أين الأحياء؟، من شاهدتهم هذه الليلة ليس ضحايا حكومة يوم الصواريخ، نحن الضحايا لذلك اليوم، ونظر وهو يشاهد الموتى يبتعدون عنه، وقال: أنا متأكد أنني ميت مما يحدث لي من الحكومة وما تفعله بنا، وأننا لم نعد أحياء، وانتهى الفيلم بهذه الحكاية، إذ قام ابن الحارس، وطلب من الحكومة أن تعيد عقل والده إلى ما كان عليه قبل أن يشاهد الموتى ينهضون ذات ليلة وتأتي بهم الشرطة إليه، وحينها، سألته الحكومة: سنقبل الطلب، بشرط أن يفسر لنا أين ذهب أولئك الموتى، وهل نحن منهم، أم أنهم فروا وتركونا وحدنا، وهل نحن حكومة لأموات أم لأحياء أم لأشباح؟ زعق الشاب وانتزع شعر رأسه، وضرب الجدار وهو يصرخ: أي حكومة؟، مشعوذون ومارقون وناهبو عقول.. لا تعلم ما تفعل!، من أين أتت؟ أي إبليس أتى بكم من..؟.
مر زمن طويل منذ أن شاهدت فيلماً سينمائياً يحكي أن الموتى المدفونين في القبور يسمعون صراخاً قوياً لدرجة أنه يوقظهم ويخرجون أفراداً وجماعات إلى سطح الأرض، وحينها يتلفتون حولهم فإذا هم لا يزالون في الدنيا، وأن هناك طوابير من السيارات وزعيق يتصاعد، وهناك أيضاً حريق في معظم الشوارع ودخان وأصوات رصاص وبنادق، وينظرون في بعضهم البعض ويتساءلون: هل هذه الدنيا، وهل هؤلاء بشر مثلنا؟، وبينما هم في تساؤلهم تقترب منهم فرقة من الجنود وتعتقلهم، ويساقون في ظل دهشتهم إلى السجن، ويسألهم السجان من أين أنتم؟! "نحن من المقابر"، فيضحك ويصرخ في من هم حوله: ألم أقل لكم إننا سنشهد يوم القيامة بسبب هذه الحكومة، وأن الموتى سينهضون من قبورهم، مما تفعله بنا؟. وحينها يكلمه أحد الموتى: نحن فعلاً من الموتى أتينا من المقبرة فوراً إلى هنا، ما هذا الذي أدخلتنا به ومن هؤلاء؟ هل هم موتى مثلنا، وهذه الطوابير والدخان والزعيق من يقوم بها هم بشر أحياء أم موتى من بلاد أخرى؟.
نظر السجان وفتح فمه ورشف رشفة من الماء وصاح: صحيح ما قاله لي العم عبيد في الحارة منذ أيام، إن الموتى سينهضون من قبورهم مما تفعله بنا حفنة مارقة سارقة عاجزة، هي حكومة الناجين من الصواريخ، وأن هذا اليوم سيأتي لا شك!، وأعاد السجان السؤال للميت: أسألك بالله، من أين أنتم؟ ما هي تهمة إدخالكم هنا؟ ألم تقل الحكومة هي السبب، وهي التي توقظ الموتى وتميت الأحياء؟، ما الذي قاله لك العم عبيد حولنا؟.. نحن الذين نهضنا من دون سبب إلا ما يحدث لكم أيها الأحياء!.
زعق الرجل المسكين مرة أخرى وهو يردد: لقد جننت، يا ناس، أنا حقاً لست أحلم، لكنني يقيناً مجنون، وأعترف بكامل وعيي بأنني مجنون! يا أخي قل لي من أين أتيتم، ألا تفهم؟، حسناً اسأل الحكومة التي تتعامل معكم مثل الموتى ولا تكترث لحياتكم، ولا أعطتكم قدراً من الاهتمام، واجتهدت وأوقفت تصاعد الريال والزيادات في الوقود، وسعت ويسرت لكم الخدمات ورواتبكم بقدر معقول، يبدو مما نرى أمامنا أننا الأحياء وأنتم الموتى.