صالح علي باصرة.. ديناميكية التاريخ في الإنسان

> فاجأني زميل في الجامعة، وهو يتحدث بمرارة عن طيب الذكر د. صالح علي باصرة، وما قدمت يمناه للجامعة والوطن على السواء، وقيادة جامعة عدن حتى اليوم لم تخلد اسم الراحل الكبير -وإن كان الباصرة خالداً في قلوب محبيه دائماً- على أي مرفق من المرافق العلمية الكبرى بما يليق بواحد مثله.
الأمر ربما ليس بهذه الأهمية عند البعض، لكنه بهذه الأهمية كما نعتقد على الأقل من باب رد الإحسان بالإحسان والتحية بمثلها إن لم يكن بأحسن منها.

على مشارف الشهر الفضيل رمضان قبل عامين ودعنا د. صالح في منتداه المتميز بجدارة ثقافة صاحبه على أمل اللقاء بعد رمضان، لكننا لم نلتق، ذهب إلى الأردن وعاد محمولاً على الأعناق بعد أن فاضت روحه الطاهرة في يوم الإثنين 19 نوفمبر 2018م. شيعه وودعه آلاف من محبيه وذويه ومريديه وزملائه وطلابه ورفاق دربه على طول وعرض خارطة اليمن.

لم يكن الرجل الأسمر ذو القوام المعتدل واللكنة الحضرمية المتميزة ليتفوق عليه مرض السكري، فقد ظل قوياً مثابراً على عمله، مذ عرفناه صغاراً في السبعينيات وهو يطل من الشاشة الفضية الصغيرة قريباً جداً من قلوب المشاهدين وهو يتحدث عن التاريخ. وعندما أعدت إلى ذاكرته -وقد أصبحنا زميلين- ذلك المشهد راح يسترسل في سرد ذكريات ذلك الوقت عندما كان يذهب لمشاهدة حلقاته تلك لمقهى في كرتير يقتني تلفازاً ويحرص أن لا يشرب كوب الشاي قبل أن يشاهد حلقته التاريخية كاملة.

لم يكن النظام أوانئذ يلتفت إلى مواهب وثقافة رجل مثل باصرة لسبب بسيط، فقد حسب على البعث أو هو فعلاً قد انتمى إلى ذلك التنظيم في طور مبكر من حياته، لكن رجلاً بمثل كاريزما وقدرات صالح يستطيع أن يثبت ذاته في مساحات العلم والثقافة، ويقول: هاأنذا.

عندما تسنم رئاسة جامعة عدن بعد حرب العدوان على الجنوب في صيف العام 1994م كان بإمكانه أن يروض نفوساً أسكرها النصر الذي يشبه الهزيمة فجعل من جامعة عدن مملكته التي لا يرضى صالح بالتدخلات فيها لترسيخ نشوة الانتصار الزائف. وكان يسجل، وهو المنتمي لحزب الموتمر الحاكم، حصانة لا تقبل الجرح في اتخاذ سياسة جامعية تحافظ على الكل وتستوعب الآخر الجنوبي وتفتح أمامه أبواب الجامعة كحق دستوري مشروع.

ومن ذلك مثلا: استيعاب الجامعة لعشرات الكوادر العلمية من معهد باذيب للعلوم الاشتراكية ومساواة شهاداتهم العلمية بالمستوى الأكاديمي لجامعة عدن دون انتقاص.
وصالح نفسه هو الذي كسر هيمنة صنعاء المهينة للعلم بمعادلة الشهادات العليا أمام لجنة ممن لا يمتلكون موهلا علمياً، واعتمدت الجامعة الشهادة العليا دون المرور على هذه اللجنة سيئة الذكر.

عند عودتي من الدراسة الجامعية في موسكو عام 1997م عبر القاهرة التي كانت تزخر بآلاف من قيادات وأبناء الجنوب النازحين نتيجة الحرب الظالمة في العام 1994م، وكان شيخ المناضلين والقائد العسكري الكبير اللواء أحمد سالم عبيد يقول لي كمن ينبهني: سيكون ملفك قد سبقك من موسكو إلى دوائر الأمن في عدن، لكني في قرارة نفسي كنت أقول: أن هؤلاء يتبعون مبدأ معاوية ابن أبي سفيان بقوله (إننا لا نحول بين المرء ولسانه إلا أن يخرج شاهراً سيفه) ما دام الجنوب وثرواته تحت قبضتهم.

كان الراحل الكبير الأستاذ هشام باشراحيل -رحمه الله- قد اضطلع بدور خفي وعلني في تقديم يد العون لأبناء الجنوب، ومن ذلك مساعدة من هم في مثل حالتي للالتحاق بالجامعة، هشام السند كان يقابله في الطرف الآخر وعلى ذات المسعى د. صالح باصرة، جمعت الاثنين روح من المحبة مالت كل الميل لمساعدة الناس، ولم يكن صالح ليتبرم من، أو يشترط تخفيف حدة النبرة في مقالاتي في "الأيام" الغراء، أو إن أدخل بيت الطاعة ولو قليلاً.

كانت نفوسنا تمتلئ بهجة حين نذهب إليه في مكتبه، كقسمين للتاريخ في كليتي التربية والآداب، لنعقد اجتماعنا الشهري هناك. فينخرط معنا في النقاش وإبداء الرأي وتذليل الصعاب مركزاً على إصدار مجلة (سبأ) التاريخية المحكمة.

كنا ننتظره في مكتب مجاور لمكتبه في ديوان الجامعة لنبدأ الاجتماع، فأقول لرئيسة القسمين الزميلة د. أسمهان الجرو ممازحاً تبوأي الاجتماع بالجلوس على الكرسي الضخم المخصص لرئيس الجامعة باعتباره عضواً وهي رئيسة الاجتماع، فترد (العين لا تعلو على الحاجب) وعند دخول صالح علينا وجلوسه على ذلك الكرسي أبادره بالقول بما قلته سلفاً لزميلتي فيشرق وجهه بابتسامة رضا، ويوجه إليها الحديث ضاحكاً (انتبه تصدقي الوهطي الكرسي هذا حقي أنا).

أحدث د. صالح تغييرات في بنيان جامعة عدن بإيصال التعليم الجامعي أفقياً إلى أماكن ريفية بعيدة ما كان ليصلها إلا بشق الأنفس، فاستحدث كليات جديدة في أبين ولحج وشبوة وحتى عدن نفسها.
ولا شك أنه قد خاض مخاضا إيجابيا للتغيير في وزارة التعليم العالي حين تبوأها وزيرا. وفي ظل الدسائس التي حاصرته في تلك الوزارة والحرائق المتعمدة لطمس ملفات الفاسدين فقد ثبت صالح حصة من منح الابتعاث إلى الخارج لأبناء الجنوب ظلوا محرومين منها لسنوات ما بعد حرب احتلال الجنوب.

ما كان لهذا الأكاديمي إلا أن يحمل كاهله فوق ما يحتمل برضى نفس لأن تلك الأعمال هي صميم إرادته ومبادئه التي يعيش لأجلها.

وما كانت المناصب التي تبوأها لتنسيه عمله كمورخ فيضع بصمته في تاريخ حضرموت والعلاقات المتبدلة في الجزيرة والخليج العربي بما في ذلك مشاكل الحدود، وكانت سلسته التلفزيونية في قناة (السعيدة) استعراضاً شاملاً لتاريخ اليمن عبر أطواره المختلفة من القديم إلى المعاصر ببداهة العالم ونباهة الأكاديمي فحظيت تلك المقابلات بشعبية كبيرة لأسلوب صالح التبسيطي، واختياره الألفاظ المناسبة دون تقعر وهو ما ينم عن عبقرية فريدة.

وسيذكر الناس جرأة باصرة وتحديه للنظام بورقته التي شخصت مكامن الفساد و الموسومة ب ( قائمة باصره - هلال ) والتي شخصت تدهور الأوضاع ووصولها حد الاحتقان والمواجهة بتسمية ستة عشر رهطا من اساطين الفساد في الجنوب والشمال هم من ركائز القوة في نظام الرئيس السابق. وأصبح مأثوراً قول باصرة للرئيس إما أن تختار الشعب أو الستة عشر فاسداً.

لم يستسغ النظام ورأسه تلك الجرأة غير المعهودة وظل باصرة محط سخرية الرئيس والتحريض عليه في كل مجلس بصنعاء يطأه.
هذا هو الأستاذ الكبير د. صالح علي باصرة المتعدد ذكاء وأداء، هو الأكاديمي ولكنه إلى السياسة والدبلوماسية أقرب، وهو المؤتمري بعد الوحدة ولكنه إلى كل أطياف السياسة والأحزاب منفتحاً برحابة صدر لا يعرف التعصب والانغلاق، وهو المورخ، لكن بسعة أفق المعرفة والالتزام المنهجي وبأدوات عصرية.
سابق اللحظات الأخيرة من حياته ليجعل من مركزه العلمي والتاريخي منارة تشع من داره في عدن، وكان ملتقاه الخميسي في داره أيضاً فريداً بنوعية سبل المعرفة المتنوعة والسياسة منها موضوعات تطرح لتثري العقول، رحم الله د. صالح باصرة رحمة واسعة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى