من علماء المسلمين.. ابن بطوطة

> ابن بطوطة أحد أشهر المغامرين في تاريخ الحضارة الإسلامية، جغرافي لامع، ورجل جمع بين علوم الشريعة والدبلوماسية والجغرافية بمعناها التجريبي الوصفي. قضى ما يقرب من ثلاثة عقود من حياته يطوف العالم، يتخذ قرار السفر دون عناء أو تفكير يُحسَد عليه، وقد امتلك مع هذه الجرأة والشجاعة وحياة المغامرة قوة بدنية، والتزاما أخلاقيا جعله يواجه الأخطار بنفس صلبة، وعزيمة قوية، ثم هو مع ذلك محب لعلو الشأن والمكانة، يبحث عنهما أينما حلّ ونزل، وعلى الرغم من كونه ليس بعالم إلا أن ما جمعه من معلومات في رحلاته إلى بقاع الأرض المختلفة جعله في مصاف العلماء.

لقد كان محمد بن عبد الله بن بطوطة الطنجي المغربي اللواتي (703- 779هـ/1304- 1374م) من أشهر الجغرافيين والرحّالة الذين لا يزال الجدل حولهم حتى يومنا هذا، وهو كما يقول المؤرخ والمستشرق الروسي إغناطيوس كراتشكوفسكي: "مهما اختلفت الآراء فيه فإن من المستحيل إنكار أنه كان آخر جغرافي عالمي من الناحية العملية، أي إنّه لم يكن ناقلاً اعتمدَ على كُتب الغير، بل كان رحّالة انتظم محيط أسفاره عددا كبيرا من الأقطار، وقد جاوز تجواله مقدار مئة وخمسة وسبعين ألف ميل".
المبنى الذي عمل فيه ابن بطوطة كقاضٍ رئيسي لمدة 6 سنوات في دلهي
المبنى الذي عمل فيه ابن بطوطة كقاضٍ رئيسي لمدة 6 سنوات في دلهي

خرج ابن بطوطة من بلدته طنجة في شهر رجب سنة 725هـ بنية الحج وزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، بيد أن ذلك الشاب لم يكن يدري أو لعله لم يُخطِّط آنذاك أنه سيغيب عن وطنه ثلاثين عاما، يجوب فيها أصقاع العالم، مستكشفا ومتزوجا ثم راحلا فغريبا تحمله الأقدار إلى الأقدار، والبحار إلى البحار حتى يعود إلى وطنه في بدايات الشيخوخة ليدوّن رحلته أحد الأدباء المغاربة، وهو ابن جُزي نقلا عن ابن بطوطة، التي سمّاها "تُحفة النُّظَّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" المشهورة اليوم برحلة ابن بطوطة.

كان ابن بطوطة ضمن سياحاته قد زار الصين وإندونيسيا (الجاوة)، ثم الهند التي كان يحكمها الأمراء المماليك المغول وعلى رأسهم السلطان ابن تغلق شاه، وقد تعرّف ابن بطوطة على أحد الأمراء المحليين في منطقة تُسمى (هنور) يُسمى الأمير جمال الدين، يبدو أنه كان مسيطرا على مساحات كبيرة من جنوب الهند، وكان رجلا محبا لنشر الإسلام، فلازمه ابن بطوطة، وكان يخرج معه في الحملات العسكرية ضد الهندوس وغيرهم، لكن ذلك الصراع كانت نهايته أليمة حين انتصر الهندوس، وحين "استولت الأيدي على المتاع، وتفرَّق أصحابي إلى الصين والجاوة وبنجالة" كما يقول، أدركه اليأس، وقرّر أن يبحث له عن بلاد جديدة يعيش فيها.

كانت هذه البلاد هي جُزر ذِيبة المهل، فهو يقول: "وكنتُ أسمعُ بأخبارها"، وقرَّر على الفور أن يأخذ رحاله ويركب إحدى السفن المتجهة إلى هذه الجزيرة التي وصلها بعد عشرة أيام من مغادرته لسواحل الهند الجنوبية في شهور سنة 745هـ/1344م، وهي مكان من أهم الأماكن التي مر بها ابن بطوطة.

ويبدو أن الاسم العربي لجزيرة "ذيبة المهل" إنما هو مقلوب اسمها المعروف اليوم مالديف (مال – ديب)، و(مال) أو (مهل) هي عاصمة الجزر والجزر كلها تابعة لها، وحين نزل ابن بطوطة تلك الجُزر الغنّاء، بجله أهلها حين رأوه عالما قادماً من بلاد الإسلام والعروبة، له شأن وسُمعة انتشرت قبل مجيئه لمكانته العالية التي اكتسبها عند سلاطين الهند العظماء، وهو الذي عمل عندهم قاضيا وسفيرا مرموقا، ولذلك عيّنته سلطانة المالديف قاضيا على كل الجزر والرعية التابعين لها، وجعلوه في مكانة عالية، يقول: "إن أردتم مقامي فأنا أشترط عليكم شروطا، فقال: نقبلها فاشترط، فقلت له: أنا لا أستطيع المشي على قدمي، ومن عادتهم أن لا يركب أحد هنالك إلا الوزير، ولقد كنت لما أعطوني الفرس فركبته يتبعني الناس رجالا وصبيانا يعجبون مني". وكان من عادتهم ألا تركب إلا السلطانة والوزير، فأذنوا لابن بطوطة القاضي أن يكون مثلهم رجل دولة كالملك بينهم، وقد أهدوه البساتين والأموال وجعلوا أوامره مُجابة بينهم!
منزل في مدينة طنجة، والمحتمل أنه يحتوي على ضريح ابن بطوطة
منزل في مدينة طنجة، والمحتمل أنه يحتوي على ضريح ابن بطوطة

أما ما يتعلق بعالم المرأة في هذه الجزيرة فقد رأى ابن بطوطة بعض العادات التي كان أهلها ملازمين لها رغم إسلامهم قبل ذلك بقرنين على الأقل، منها عدم سترة أجساد النساء في الأجزاء العلوية منها تشبُّها بالرجال، كانت زوجة ابن بطوطة من البيت السلطاني، لكن نعيم ابن بطوطة في هذه الجزر لم يدم طويلا، فقد حسده الوزير عبد الله بن محمد الحضري، وزاد الأمر سوءا أن ابن بطوطة لم يحكم بما أراده هذا الوزير في بعض القضايا المتصلة به، وانتهى الأمر بأن قال له هذا الوزير: "إنما غرضك السفر عنّا، فأعطِ صدقات النساء وديون الناس وانصرف إذا شئت، فحلفت بالأيمان المغلظة أن لا بدّ من سفري، ونقلت ما عندي إلى مسجد على البحر، وطلّقت إحدى الزوجات، وكانت إحداهن حاملا، فجعلت لها أجلا تسعة أشهر إن عدتُ فيها، وإلا فأمرها بيدها.

وهكذا انتهت رحلة ابن بطوطة إلى المالديف بعد عام ونصف العام من مجيئه إليها، بسبب عداوة الوزير له بعدما بلغ ابن بطوطة القاضي مكانة مرموقة في قلوب الجميع، وصار سلطانه ونفوذه في الجزيرة يشبه نفوذ السلطانة والوزير، حتى إن ابن بطوطة لم يحكم للوزير بما أراد، وأغلظ له القول أمام الجميع، وقرَّر، بمنتهى البساطة، أن يترك كل شيء، ويعود من جديد سائحا جوّالا رحّالا في أرض الله، ليبدأ مرة أخرى قصة جديدة ومغامرة غريبة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى