من علماء المسلمين .. عباس بن فرناس

> عند ذكر الطيران وتاريخه ينصرف الذهن إلى أوّل من حاول أن يطير من بني البشر، ذلك أنّ الطيران بدأ بفكرة، ثمّ صار أمرًا حقيقيًّا، يراه الناس اليوم، بل ربما أتت فكرة الطائرة من الذي حاول أن يجعل من نفسه طائرًا يطير بجناحين، ثمّ صار البشر يطيرون فوق الغيم بطائرة، كان أساسها فكرة لرجل عاش قديمًا في بلاد الأندلس، إنّه عباس بن فرناس، ذلك الاسم الذي إن ذُكِرَ فإنّ الذهن ينصرف إلى محاولته الطيران في قرطبة بالأندلس، وهو العالم الموسوعيّ الذي اشتغل بالفلسفة والحكمة والرياضيات والفلك والكيمياء والفيزياء والطب والهندسة والعمارة والشعر وموسيقاه وفنونه، وقد لقّبه أبن حيّان القرطبي بحكيم الأندلس.

لم يستدلل على تاريخ محدد لتاريخ ولادة عباس بن فرناس، ولكنّ بعض كتب التاريخ قد ذكرت أنّه توفّي سنة 274هـ وقد بلغ الثمانين، وعلى ذلك فالأصحّ أنّ ولادته كانت في نهايات القرن الثاني الهجري، وذهب بعض المؤرخين استنادًا إلى هذه المعلومات إلى أنّ ولادته كانت سنة 194هـ، وحسب ما ورد، ولد في مدينة (تاكرتا) أو (تاكرنا) في الأندلس على اختلاف الروايات. وهو من موالي بني أمية في الأندلس، نشأ في قرطبة التي كانت قبلة طلبة العلم آنذاك، فتعلّم في مساجدها القرآن الكريم فيما كان يُعرف بالكتاتيب، وكذلك تعلّم مبادئ الدين الإسلامي الصحيح، ثمّ صار يرتاد حلقات العلم الكثيرة التي كانت تُعقد في مسجد قرطبة الجامع المعروف، فكان يتسمّع لما يجري فيها من مناظرات وجدالات علميّة ومباحثات بين طلبة العلم أو بين العلماء، وكذلك كان يسمع ما يدور بين علماء الأندلس من حوارات، يتحدّثون فيها عن العلوم التي تلقّفوها عن علماء المشرق، وكذلك كان يتردّد على مجالس أدباء الأندلس وشعرائها يأخذ عنهم دقائق اللغة واللطائف التي يحملونها في جِعَابِهم، وكذلك كان يتردّد على علماء الطب والصيدلة يستفيد منهم ومن دراساتهم، وبذلك كانت نشأته نشأة علميّة صحيحة كما ينبغي لمن عاش في عصره، وقد تهيَّأت له سُبُل طلب العلم.
جسر عباس ابن فرناس في اسبانيا ويبلغ طوله 370 مترا بني تكريماً له كأول طيار في العالم
جسر عباس ابن فرناس في اسبانيا ويبلغ طوله 370 مترا بني تكريماً له كأول طيار في العالم

بدأ عباس بن فرناس حياته العلمية في كتاتيب قرطبة التي كانت قبلة العلم ومنارته لأهل المغرب والأندلس وبلاد الغرب وبلاد العجم، ثمّ التحق بمسجدها الجامع لإكمال دراساته العالية في العلوم المختلفة، ثمّ عندما استقى ما شاء الله له أن يستقي من العلوم في الأدب والنحو وغيره صار الأدباء يجلسون حوله يشرح لهم ما استغلق عليهم من علوم اللغة كعلوم البلاغة من بيان وبديع، وكان كذلك شاعرًا وأديبًا ومُلمًّا بعلم الإعراب، بل قد صار نحْويًّا من نحاة عصره ما جعل الزبيدي صاحب طبقات النحويين واللغويين يصنّفه في الطبقة الثالثة من نحاة الأندلس قائلًا عنه: "كان متصرّفًا في ضروب من الإعراب"، وقد عاصر الأمراء الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل، وابنه عبد الرحمن المعروف بعبد الرحمن الأوسط أو الثاني، والأمير محمد بن عبد الرحمن بن الحكم، وكان مقرّبًا منهم، وكان من شعراء البلاط، وقد اتخذه الأمير عبد الرحمن بن الحكم معلِّمًا له في علم الفلك، ودرس الفلسفة والمنطق والنجوم، وقد درس الطّب وخصائص الأمراض وأعراضها وكيفية الوقاية منها، وكذلك قد درس علاج مَن أصيب بتلك الأمراض، ودرس ابن فرناس أيضًا خصائص الأحجار والأعشاب والنباتات، وقد وقف على ما تُفيده تلك النباتات والأعشاب في المعالجة، ولذلك اتّخذه الأمراء الأمويون طبيبًا خاصًّا للأسرة الأمويّة الحاكمة، وبذلك برز اسم عباس بن فرناس من بين أقرانه من علماء الأندلس، ونال صيتًا واسعًا طيّبًا في بلاد الأندلس، فلم يكن لقب حكيم الأندلس الذي أُطلِقَ عليه عبثًا، بل قد استحقّه لما جمع من علوم في مجالات شتّى، لا يستطيعها عادة الإنسان العادي إلّا إذا كان من أصحاب الذّهن المتوقّد والجرأة العالية على اقتحام عوالم تلك العلوم، وكذلك عليه أن يكون من أصحاب الهمّة العالية والنّظر البعيد إلى الأمور، وكلّ تلك الصفات كانت قد اجتمعت لعباس بن فرناس.

ومن أهمّ إنجازات عباس بن فرناس التي سجلتها كتب التاريخ، محاولته للطيران، وهي المحاولة الأولى من نوعها في التاريخ، وقد جاءت بعد دراسة لثقل الأجسام ومقاومة الهواء وضغطه عليها إذا ما طارت في الهواء، وكثير من التجارب الفيزيائية التي أجراها بنفسه، ثمّ قرّر أن يُجرّب الطيران بنفسه فصنع جناحين من الحرير الأبيض ليتناسب مع ثقل جسمه، ثمّ أعلن للناس على الملأ أنّه سيطير في الهواء في الرصافة في مدينة قرطبة، فصعد إلى مكان مرتفع وطار مسافة بعيدة، ولكنّه حين هبط تأذّى، وأرجع بعض العلماء سبب ذلك إلى أنّه لم يضع ذيلًا ليناسب بذلك هبوط الطيور التي تهبط على ذيلها.

وممّا يُحسب لابن فرناس من إنجازات واختراعات أنّه أوّل من اخترع صناعة الزجاج من الحجارة والرمل في الأندلس، وكذلك هو أوّل من فكّ كتاب العَروض للخليل في الأندلس، وكذلك فقد صنع الميقاتة، وهي ما يقوم مقام الساعة في الوقت الحاضر، وذات الحلق، وهي آلة تشبه الأسطُرلاب وهي آلة قد صنعها لرصد حركة الشمس والقمر والنجوم والكواكب وأفلاكها ومداراتها، فكان عملها رصد المطالع والمنازل والحركات لما سبق ذكره، وكذلك من اختراعاته، آلة المنقالة لحساب الزمن، ولها شبيهة في مسجد طنجة الكبير، وأخيرًا، من اختراعات عباس بن فرناس، ما يُعرف بالقبة السماوية، وهي رسم للسماء على سقف بيته، إذ قد مثّل هيئة السماء بنجومها وغيومها وبروقها ورعودها، وكذلك الشمس والقمر والكواكب ومداراتها.

توفي عباس ابن فرناس بعد حياة حافلة بالإنجازات والاختراعات التي ما تزال بعض آثارها باقية إلى اليوم، ولم يورد الكثير عن وفاة عباس بن فرناس، وكلّ ما ذكر هو أنّه قد مات سنة 274هـ حوالي عام 887م، وقد خلط بعضهم بين طريقة وفاته وطريقة وفاة الإمام الجوهري صاحب الصحاح؛ إذ قد مات الجوهري بعد تقليده لتجربة عباس بن فرناس، إلّا أنّه قد مات متأثّرًا بسقوطه، أمّا ابن فرناس فقد عاش بعد سقوطه زمنًا طويلًا قدر بحوالي اثني عشر عاما.

حديثًا، وتكريمًا لاسمه، سُميّت فوهة قمرية باسمه، كما وضع تمثال له أمام مطار في بغداد، كتب عليه "أول طيار عربي ولد في الأندلس". وأصدرت ليبيا طابعا بريديا باسمه، وفي 14 يناير 2011، افتتح جسر عباس بن فرناس في إسبانيا على نهر الوادي الكبير، في منتصفه تمثال لابن فرناس مثبّت فيه جناحان يمتدان إلى نهايتي الجسر الذي يبلغ طوله نحو 370مترا، وهو من تصميم المهندس خوسيه لويس مانثاناريس خابون. وفي رندة، بإسبانيا أيضا، افتتح مركز فلكي يحمل اسمه.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى