​نفس منطق ما بعد 1967م

>
بعد تناولي لمقالي الموسوم بـ (مضطرون للصراخ)، أذهلني اندفاع (البعض) بتوصيفي بالخصم للجنوب وقضيته. يا إلهي وكأنّ هؤلاء لم يقرؤوا بتمعن نص موضوعي ذاك، أو وكأنهم لم يقرؤوا كل تناولاتي منذ نهايات 1992م حتى اليوم، أي حتى ما قبل ظهور حراكنا الجنوبي، ومؤسف أن من هؤلاء من طفق يقذع ويشتم بأحط العبارات. هؤلاء كيف يقيمون مواقف الناس ويصنفونهم بالله؟

المسألة هي في مدى النضج والثقافة لقراءة الآخر وتقييمه، أو في الجنوح إلى التقييمات الغوغائية المتطرفة والنزقة، أو عبر التلقينات الخاطئة، والتي يمكن أن يدسها لك أكبر خصم لدود لك ولبلادك، لكنه يجيد تمثيل دور الصديق المخلص، وأنت بكل سطحية تبتلع تلقيناته وتركبها على الآخر، وهذا حدث في جنوبنا سابقاً وكثيراً أيضاً، ومعروف من أي طرف أو جهة.

مثل هذا المنطق الأعرج، فقد تسبّب بطحن وتشريد آلاف الكوادر والشخصيات الوطنية وكبار التجار من جنوبنا، وهم نفس الجنوبيين الذين أسهموا في بناء ونهضة جوارنا الإقليمي، بل ترتب على ذلك قذف قوافل من أهاليهم ومحبيهم وتحويلهم إلى خانة الخصوم، ولذلك يعاني جنوبنا منذ ما بعد 1967م إلى اليوم من غائلة التمزق والتباينات، وهي التي تبرز بشكل ملحوظ في مشهدنا الراهن بأبشع الصور والتجليات، وفي حالة لا مثيل لها مطلقًا في كل وطننا العربي.

السيدة العدنية والقامة الجنوبية السامقة ماهية نجيب إحدى هذه الكوادر، فهي أول من سعى وناضل بصلابة لنيل المرأة العدنية والجنوبية حضورها وخروجها من قمقم وسجن الجارية التي عاشته قبل ظهورها، وناضلت ضدّ مجتمعها، وضد البريطانيين الذين يحكمونه، وافتتحت صحيفتها النسوية الأولى في عدن والجنوب وكل الجزيرة العربية لأجل المرأة ، وكل هذا من حر مالها، وبعد نجاحها في هدفها ونيلنا استقلالَنا كان من جنود وضباط أمننا بعد الاستقلال من يواصل تهديداته التلفونية لها، والحجة أنها عميلة للاستعمار يا إلهي! بعد كل ما اجترحته وقاتلت لأجله وخسرت من مالها، وبعد تعرضها للتنكيل من الاستعمار ومن مجتمعها هي عميلة للاستعمار، لذلك هربت متشردة إلى السعودية حتى وفاتها، تصوّروا بالله عليكم!

بعد الاستقلال كنا نجيء بالجاهل وغير المتعلم من أقاصي البلاد، ونُوليه منصباً أرفع من مستواه وخبراته، والحجة (المشاركة في السلطة)، أو نضعهُ في جهاز أمن الدولة، ونعبّئهُ بالمصطلحات الجوفاء وغير الدقيقة، وينطلق هو يمارس مهامه وفقاً لها -هذا كمبرادوري، هذا عميل، هذا رأسمالي، وهذا.. وهذا، وينطلق يتلصّص ويعتقل في الناس على هذه الأسس، ويحقق ويعذب في ناس أبرياء بعيدين تماماً عن هذه التوصيفات، بل هم مواطنون عاديون بسطاء، وقُدنا جنوبنا إلى هاوية سحيقة نتلظّى في أتونها حتى اليوم.

يا بعض هؤلاء متى ستفيقون، وجنوبنا بمثل هذه العقلية الرثة، أو بهذه الغوغائية والتطرف النّزق في تقييم الآخر الجنوبي، أو حكر صكوك الوطنية وحصرها على نطاقٍ أو جغرافيا ما وحسب؟، بهذا الشكل لن تقوم لجنوبنا قائمة والله، وما عشناه منذ 1967م حتى اليوم من تجارب مريرة وتناحرات وانكسارات و و. كل هذا جعل دول جوارنا الإقليمي تنهض وتتجاوزنا بمسافات فلكية، بل بكوادرنا التي شرّدناها، وكلنا يعرفها كيف كانت من قبل، وهذا يؤكد لنا هذا الأمر، أليس كذلك؟

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى