قصة قصيرة (صوت الغراب)

> بدر العرابي

> في كل صباح، وفي لحظة إسدال النهار الأولى، لي قصة جميلة مع صوت الغراب، منذ الطفولة؛ إنه يشعرني بتلاشي الظلمة، وبأن ثمة يوم جديد، ويعيد لي أجمل ذكريات العمر مع (مدينة عدن الساحرة).. ارتبط صوت الغراب في لحظة انبلاج الصبح، بعلاقتي بمدينة عدن التي كنت أقدم إليها وأنا طفل؛ كجائزة ووعد كان يقدمها لي إخوتي، في العطلة الصيفية، إخوتي الذين يشتغلون في سلك القوات المسلحة؛ ولأنني أحصد المراتب الأولى في مدرستي، في ريف لحج، كان إخوتي يصحبوني معهم إلى عدن، لأستمتع بجمالها الخلاب، وبحرها وضجيجها المديني.

كان صوت الغراب، وبينما أنا على السرير، يبلني بنشوة جديدة، وسعادة يصعب الآن وصفها... كان صوت الغراب يعني لي أنه لا يزال هناك متسع للاستمتاع بجمال مدينة عدن، خاصة وإني أقيم حينها، في منطقة خورمكسر، ثم مدينة التواهي، بتناوب بين المواقع العسكرية التي يشتغل فيها إخوتي.. صوت الغراب كان يعني لي أنه بعد لحظات، وبالتحديد بعد الطابور العسكري، سيعود أخي لإيقاظي حاملًا معه (قرصين روتي)، يحويا بيضًا مع الخس والجبن، وكأس لبن وشاي في (قصعة الفول)، بعد إضافة محتواها لوجبة الفطور في ميز ومطبخ الضباط.

صوت الغراب كان وما يزال يعني لي مزيدًا من صخب مدينة عدن، المدينة الساحرة.. ومزيدًا من تدفق نسيم البحر الكثيف بالأوكسجين والغبطة، إلى رئتي.

صوت الغراب الذي ترافقه في الصباح الباكر، أصوات السفن وأبواقها، وهي ترسو في الميناء، ورائحة البحر والفاصوليا والسمك المنبعثة من مطاعم ومخابز المدينة ورائحة الشاي، وضجيج السيارات والباصات والمركبات، وكل ذلك يرافقه شيء ثابت هو: صوت ورائحة البحر اللذان يتناوبان على حاستي السمع والشم لدي، وأنا في قمة الغبطة، وعلى استعداد لبل ظمأ بصري بمزيد من جمال هذه المدينة الساحرة، إنها الجنة أو نسخة منها، وضعها الله على الأرض .

صوت الغراب، عند تنفس الصبح، يبعث في ذاكرتي نشوة، ماتزال تمخر في الذهن، كل صباح، لتعيدني طفلًا بريئًا يعب من جمال وسحر مدينة عدن، التي ما تزال تثملني رؤيتها، وتمنحني الإحساس بأنني ما أزال على قيد الحضور الإنساني المنعش.

عندما كنت أسمع نعيق الغراب، أقف على الشباك، في المعسكر الواقع في التواهي، كنت أحس أنني لست أقف على الأرض، كنت أحس أنني على كوكب دري يعوم في الفضاء: البحر يحيط بهذا الكوكب، تارة يحمله الكوكب، وتارة أخرى البحر يحمل الكوكب في فضاء آسر بالسحر والجمال.. كنت لا أحس أنني على الأرض، إلا بعد صخب أصوات السيارات، وهو يرتطم بمسامعي.

صوت نعيق الغراب في الصباح الباكر الآن وكل يوم، يعيدني إلى طفولتي وعشقي ..إلى عدن الساحرة، حين كنت أراودها عن نفسي، فتراودني بسحرها، عن كلها، وتهم بي وأهم بها بثمالة، يصعب عليَّ أن أفي بتصويرها الآن.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى