أزمة كراتين

> كان الكرتون في الزمن الماضي بشارة خير، يحمل فيه المسافر هدايا من الحلوى والكيك والقرمش واللدّو والعُشّار إلى القرية، يفرح به الأطفال والعائلات، وخاصة لما يكون حامله رب الأُسرة الأب.
وكان الكرتون رسالة من المدينة إلى القرية يحمله "الطَبَل" الذي يُقال له أحياناً "الجمّال" وإنْ كان لا يركب جملاً.

أما اليوم صار "الكرتون" الذي يشهد سباقاً عليه في الظهيرة والمساء شيئاً آخر، ترى المواطن يسحبه وراءه على الأرض بعد تفكيكه وسلخه إلى قطع مستطيلة ومربعة، والذهاب به إلى أماكن "التكية" في الأركان والحوافي وتحت حيطان العمارات والمحلات في وقت الظهيرة لاغتنام الساعة السليمانية المنشودة، وكأن الكرتون صار صديق "الموالعة" لا سيما أيام الحر، والحاجة الملحة إليه لقضاء وقت الاستراحة المحسوبة للشُقاة من الثانية عشر إلى الثانية بعد الظهر على الهواء الطلق، ويطلبه الهاربون من حر الصيف في البيوت من أبناء القرى والمدينة، وأيضاً تراهم يجرّون الكراتين خلفهم إلى حيث يستقر بهم المكوث لتناول أغصان القات، فلا يعودون إلاّ عند اقتراب المساء، ومنهم من يستمر في "التكية" إلى وقت متأخر، خشية أن يكسر "الكيف" بالتنقُّل.

جديد الكرتون في الاستعمال الآدمي إن إخواننا القادمين من الحبشة "الأورمو"، وأيضاً المغلوبين من المواطنين في هذا البلد يستخدمونه فراشاً للنوم والراحة، فترى عجلات ملفوفة من الكراتين على الأرصفة عند المساء وتحت الحيطان والأشجار المصفوفة على بعض الطرقات، وكأن الكرتون صار سلعة باهظة، ولعلها الحرب أعطته هذه القيمة، فالناس تحب التفرجة والتفكُّه والاستراحة، وصار التنزُّه على طريقة المواطن في هذه البلاد محل استغراب المراقبين للمشهد السياسي القاتم في ظل استمرار الحرب، فالمواطن صار لا يعبأ بشؤون الحرب، وكأنه يعيش أجواء فسيحة من السلام، ما دام يكفيه كرتون في الظهيرة وحزمة من القات بحسب قدره، وقنينة ماء في مجلس تفرطة، يفرط فيه العقد الذي أبرمه مع نفسه، وينفش المسبحة ويبدأ تركيب المفكّك وتفكيك المركّب وحَلْق الشنب، والانتهاء من مشروع والدخول في مشروع، والحلم بمنظمة تصنع له صرحاً ممرداً كالذي أذهل به سليمان بلقيس. بصراحة يمني مذهل، الحرب في جهة وهو صامد في تكيته في جهة أخرى، مثل شرعيتنا "السابطة" في غُرف الفنادق، إلاّ أن الفرق في فراشه أنه من كرتون وفراش الحكومة من حرير.

وهو يصمد في وطنه والشرعية تصمد في الرياض، هو يذهب يشقى ويدعو بالفرج، بينما تجّار الحروب يشقّون عليه ويُمعنون في إطالة أمد الحرب.
المواطن البائس يرى أن الكرتون المصنوع من القراطيس قدّم له خدمة، فهو يتكئ عليه ويستريح وينام، بينما بعض الساسة "الكراتين" بزعمه لا فائدة من وراءهم ولا طائل رغم كثرتهم، وهو في نظره قد عزّ كرتون القراطيس الذي صار بيتاً للبائسين ومأوى.
ليمضي الجنوب خلف غايته وليرفع رايته، والعياذ بالله من صَنَم الكراتين.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى